يتجدد الحديث عن الاستقلال الوطني، كلما حلت الذكرى السنوية لتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال في اليوم الحادي عشر من شهر يناير سنة 1944، إلى الأطراف الثلاثة : جلالة السلطان محمد بن يوسف (محمد الخامس)، الإقامة العامة الفرنسية، ممثلو دول الحلفاء المعتمدون في الرباط. لأن هذه الوثيقة التي هي من الإنجازات الوطنية العظيمة لحزب الاستقلال المنبثق من الحزب الوطني الذي تأسس سنة 1937، قامت على أساس المطالبة بالاستقلال الوطني الناجز والكامل الذي لا تشوبه شائبة، الذي يبدأ من إلغاء معاهدة الحماية (30 مايو 1912)، وينتهي بجلاء قوات الاحتلال الفرنسي والإسباني والإدارة الدولية في طنجة، مما يعني استرجاع السيادة الوطنية الكاملة غير المنقوصة على الأرض، وعلى المواطن، وعلى الإدارة، وعلى الجيش والأمن، وعلى الاقتصاد، وعلى التشريع. لقد كان إبرام عقد الحماية بين المغرب وفرنسا عدواناً على السيادة المغربية، وغبناً وظلماً وقمعاً للإرادة الوطنية، وإلزاماً للمغرب بالرضوخ للسياسة الفرنسية الرامية إلى احتلال المغرب بصورة نهائية، بعد أن احتلت احتلالاً عسكرياً دامياً، مناطق عديدة منه في الشرق والغرب، قبل ذلك بسنوات قليلة. وكان الضغط الذي مارسته فرنسا على السلطان مولاي عبد الحفيظ بن السلطان مولاي الحسن الأول، ليوقع على عريضة فاس، عملاً من أعمال القرصنة، وجريمة من الجرائم الاستعمارية التي كانت ترتكب في تلك الفترة في حق الشعوب العربية الإسلامية. كان قد مضى ثلث قرن (1912-1944) على احتلال المغرب تحت غطاء الحماية، عندما تحرك حزب الاستقلال في مبادرة تاريخية مشهودة وموقف وطني شجاع، بإعداد الوثيقة والتوقيع عليها من طرف ست وستين شخصية وطنية مناضلة كان من بينها السيدة مليكة الفاسي رحمها الله، وتقديمها إلى الجهات الثلاث التي قدمت إليها. وكانت الوثيقة ثمرة للتعاون الوثيق والتنسيق الكامل والتجاوب العميق بين قادة الحزب الوطني وجلالة السلطان محمد بن يوسف، في سرية تامة فاجأت سلطات الحماية، وأكدت نجاعة الوسائل التي كان يستخدمها الحزب الوطني المحظور من السلطات الاستعمارية منذ شهر أكتوبر سنة 1937، أي بعد شهور من تأسيسه. ومنذ أن تأسست الحركة الوطنية في أواخر العشرينيات من القرن العشرين، قبل أن تتبلور في كتلة العمل الوطني التي تأسست سنة 1934، والهدف الاستراتيجي الذي صممت على تحقيقه على مراحل، هو الاستقلال التام. وكان من علامات النضج التي طبعت عمل الحركة الوطنية، أنها اختارت أسلوب التدرج في المواجهة مع الاستعمار، وفي وضع الخطط المرحلية، خطة بعد خطة، للوصول إلى الهدف النهائي. ومن هنا (كانت مطالب الشعب المغربي) التي قدمها الوطنيون سنة 1934، ثم (المطالب المستعجلة) سنة 1936، وخلال الفترة الفاصلة بين سنة 1937 وسنة 1944، والتي تخللتها الحرب العالمية الثانية، كان الوطنيون المغاربة ينهجون سياسة حكيمة كانوا يجتنبون بها المواجهة العنيفة والصدام المباشر مع الاستعمار على الرغم من أجواء القمع التي كانت تسود البلاد بين الفينة والأخرى. وبهذا المنطق النضالي والوعي الوطني الرشيد، تطورت المطالب الوطنية من المطالبة بالإصلاحات إلى المطالبة بالاستقلال من أجل أن يتولى المغاربة الإصلاح بأنفسهم في إطار الدولة المغربية المستقلة. وثيقة الحادي عشر من يناير 1944، هي ثمرة من ثمرات حزب الاستقلال، عبرت عن ضمير الشعب المغربي، وطالبت بستة مطالب رئيسة، هي : الاستقلال، ووحدة الأراضي المغربية، وسعي الملك لاعتراف دول العالم بالاستقلال، وانضمام المغرب للدول الموقعة على ميثاق الأطلسي، ومشاركة المغرب في مؤتمر الصلح، وإحداث نظام سياسي ديمقراطي. ونحن نقرأ في هذه الوثيقة، التي نحتفل اليوم بذكراها، أنه فيما يرجع للسياسة العامة، فإن حزب الاستقلال يقرر أمرين اثنين : أولهما : أن يطالب باستقلال المغرب ووحدة ترابه، تحت ظل صاحب الجلالة ملك البلاد المفدى سيدنا محمد بن مولانا يوسف نصره الله وأيده. ثانيهما : أن يلتمس من جلالته السعيَ لدى الدول التي يهمها الأمر، للاعتراف بهذا الاستقلال وضمانه، ولتوقيع اتفاقيات تحدد ضمن السيادة المغربية، ما للأجانب من مصالح مشروعة. أما فيما يتعلق بالسياسة الداخلية، فإننا نقرأ في هذه الوثيقة أيضاً، أن حزب الاستقلال (يلتمس من جلالته أن يشمل برعايته حركة الإصلاح التي يتوقف عليها المغرب في داخله، ويكل لنظره السديد إحداثَ نظام سياسي شوري شبيه بنظام الحكم في البلاد العربية الإسلامية في الشرق، تحفظ فيه حقوق سائر عناصر الشعب وسائر طبقاته، وتحدد فيه واجبات الجميع). وهكذا تكون الوثيقة قد عبرت في صياغة واضحة مناسبة ورصينة معاً، عن مطالب الشعب المغربي في المرحلة الجديدة، وهي : الاستقلال التام، والوحدة الترابية، والنظام الديمقراطي، ودعم حركة الإصلاح، وكفالة حقوق الإنسان، والتعلق بالنظام الملكي، والالتماس من جلالة الملك أن يرعى هذه المطالب، وأن يكون ضامناً لها، وذلك إيماناً من قادة حزب الاستقلال الذين وقعوا على الوثيقة، بأنه لا إصلاح إلا بقيادة ملك البلاد، ولا حريات عامة ولا كفالة لحقوق الإنسان، إلا برعاية جلالة الملك. وتلك هي المبادئ الدستورية للنظام المغربي، بل تلك هي القواعد الثابتة للاستقلال الوطني بالمفهوم العام الشامل. ومما يلاحظ في هذا السياق ويسجل بكثير من التقدير، أن حزب الاستقلال كان مدركاً عميق الإدراك في تلك المرحلة الفاصلة، لحقائق العصر ولمتغيراته، قبل إنشاء الأممالمتحدة، وقبل صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بعد ذلك بأربع سنوات (دجنبر 1948)، حيث ركز الحزب صانع الوثيقة التاريخية، على أربعة مطالب وطنية تترابط وتتكامل ولا يمكن الفصل بينها، هي : الحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والإصلاح، كما ركز الحزب على الارتباط بالنظام الدولي الجديد المنبثق من الحرب العالمية الثانية. وتلك كانت رؤية شمولية من الحزب المناصل، ومنهجية رائدة اعتمدها في العمل الوطني، وسياسة وطنية نابعة من ضمير الشعب سار على منهجها. ومما يجدر بنا أن نعيه جيداً ونستلهمه في هذه المرحلة التي يعيشها الوطن، أن الدعوة إلى الإصلاح وتجديد البناء وإقامة النظام الديمقراطي الذي تكفل فيه الحريات العامة وتصان حقوق الإنسان، ليست من الأفكار الجديدة التي يبشرنا بها اليوم من يقودون العالم ويضغطون بها علينا، ولكنها دعوة وطنية خالصة، تبنتها الحركة الوطنية المغربية بقيادة حزب الاستقلال، وكانت مؤمنة بها، ولا تزال، وكافحت الكفاح المرير من أجل تطبيقها، وعبرت عنها أوفى ما يكون التعبير وأبلغه، في وثيقة المطالبة بالاستقلال. وبذلك ارتبطت هذه المبادئ بالاستقلال ارتباطاً دائماً لا انفصال له.