توقف الأمطار مساء الخميس بعد فيضانات مروعة في عدد كبير من مناطق المدينة كان نعمة، لأنه لو استمرت الأمطار فلا أحد كان يمكنه أن يقدر عدد الضحايا، ولا الشاحنات ولا الزوارق ولا طائرات الهيلوكبتر كان يمكنها أن تنقذ عشرة آلاف عامل وتنتشلهم من داخل معاملهم. الساعة الرابعة مساء. المكان واد مغوغة على حافة حومة الشوك. أسماء الأحياء في طنجة صارت هكذا شائكة وموجعة. مئات الناس يتجمعون حول واد لتصريف المياه يربط ما بين منطقة العوامة وبين حومة الشوك. الناس كلهم ينظرون إلى الماء لعلهم يرون جثة أو بقايا إنسان. يقولون إن رجالا من الوقاية المدنية دخلوا في نفق تحت القنطرة يبحثون عن جثث، وآخرون يقولون إن الناس يتجمعون هنا فقط في انتظار جثث محتملة لأن الضحايا كثيرين. كلهم يتذكرون ذلك الخميس الأسود ويقولون إن الإعلان الرسمي عن حالتي وفاة فقط يثير الضحك. أحد سكان حومة الشوك قال إن الذين يحتمل غرقهم في هذا الوادي هم أكثر من 20 شخصا. إنه يؤكد ذلك وفق ما رآه شخصيا ووفق ما ينقله عن شهود عيان. دلائل هذا الرجل هو أن عددا من السيارات كانت تحاول الهروب من الفيضان فغرقت في الوادي. السيارات تم إخراجها، لكن ركابها الذين يفترض أنهم خرجوا منها قبل الغرق لا يعرف مصيرهم. في كل مكان من المدينة، باستثناء وسط طنجة والمناطق العالية التي لم تتضرر كثيرا من الفيضانات، فإن الناس يتحدثون عن ضحايا كثيرين ويتساءلون لماذا تم حصر الضحايا رسميا في اثنين أو ثلاثة. ويقول عدد من سكان العوامة إنهم رأوا امرأة كانت تحمل طفلا وهي تجري بحثا عن طفلتها التي اختطفها الماء ورماها في قادوس مفتوح. أغلب الضحايا الذين يحتمل أنهم سقطوا ابتلعتهم البالوعات المفتوحة. على جانبي الطريق نحو المنطقة الصناعية مغوغة هناك الكثير من الوحل وبقايا المياه. هناك أكوام يابسة من الرمال والإسمنت تم وضعها على عجل قرب الأرصفة. لو أن أمطارا طوفانية أخرى تهاطلت على المدينة لجرّت كل ذلك إلى المجاري لكي تغلق من جديد. عقول مسؤولي المدينة يبدو أنها توقفت عن التفكير المنطقي منذ وقت طويل. تبدو الكارثة واضحة في المصانع التي توجد على حافة الطريق المؤدي إلى مدينة تطوان. عشرات المعامل كانت غارقة في الماء والوحل وآلة طراكس لا تزال تزيح الوحل، بينما سيارات الشركة الفرنسية أمانديس – فيوليا تذرع الطريق ذهابا وإيابا بسرعة جنونية. لو أن هذه الشركة تحركت قبل الآن بنفس هذه الهمة لما كانت الكارثة بنفس الحجم. البقرة الضاحكة.. والبقرات الغارقة في ساحة مصنع للأحزمة الجلدية كان العشرات من عماله منهمكين في تنظيف السلع من بقايا الوحل والطمي. وعلى مقربة منه مصنع ألماني للنسيج كان يقف في بابه عدد من الأجانب مع عمال مغاربة وهم يفكرون في طريقة للتخلص من أكوام الوحل التي لا تزال جاثمة أمام المصنع. وبالقرب منه آلة طراكس تخرج أطنانا من الأثواب من معمل وتضعها في الساحة. كلها بضاعة فسدت بسبب الفيضان، ومسؤول في المصنع يقدر خسائره بما بين 70 و100 مليون سنتيم. وعموما فإن أغلب الخسائر تراوحت بين 50 و100 مليون، وهناك 150 معملا تضرر، يعني أن المبلغ ضخم. أغلب المصانع المتضررة توقفت عن العمل لأن آلياتها وتجهيزاتها تعطلت تماما، ويرتقب أن يدوم توقفها لعدة أسابيع، وهو ما يعني بطالة آلاف العمال. تبدو المنطقة الصناعية في مغوغة أو المنطقة الصناعية «المجد» في العوامة وكأنهما في قعر خندق. من الطبيعي إذن أن يحس مسؤولو المدينة بالارتياح لأن الضحايا لم يكونوا بالآلاف. في مغوغة توجد المنطقة الصناعية في سهل منخفض وعلى جانبه طريق فرعي وممر مائي لتصريف مياه الأمطار، لكن هذا الممر المائي لم يفد شيئا لأنه كان مليئا بالأزبال وقطع البلاستيك، أي إنه كان شبه مغلق، وهذا ما يفسر تعرض المناطق لفيضانات سريعة. على حافة هذا المجرى المائي سيارة فاركونيط محطمة بالكامل، ويبدو أن الماء جرفها ولا يعرف بعد مصير ركابها. على الهضبة المجاورة للمجرى المائي لا تزال آثار المياه. من الأكيد أن كل من فكر في الخروج من المعامل الغارقة كان سيلقى حتفه في حال عبوره هذا المجرى. في مصنع أجبان «البقرة الضاحكة» كان عشرات العمال والعاملات يخرجون وهم يرفعون ملابسهم عن الأرض ويركبون سيارات نقل العمال. الوحل مازال في كل مكان، والشركة استمرت في العمل في الوقت الذي توقفت فيه مصانع كثيرة أخرى. لم يتوقف العمل في «البقرة الضاحكة» رغم أن ضحكتها لم تعد كما كانت، لكن حظ هذا المصنع لم يكن كحظ امرأة عجوز في منطقة قريبة من هذا المصنع كانت تتوفر على أربع بقرات ونفقت بالكامل بعد أن غطتها مياه الفيضانات. ويقول أحد جيران المرأة إن كل رأسمالها كان هو هذه الأبقار التي قدر ثمن كل واحدة منها بحوالي 10 آلاف درهم. الحديث عن الأبقار يجر إلى الحديث عن القرى والأحواز القريبة من المدينة. هناك مواطنون فقدوا كل ما يملكون من رؤوس الماشية ومحاصيل حقولهم. وفي سهل وادي أليان، غمرت المياه المنطقة بالكامل، وهو مشهد لم ير له مثيلا حتى شيوخ القرية. لقد نفقت قطعان الماشية وخربت المنازل وحوصر السكان، لكن لم يفكر أي مسؤول في طنجة بزيارة هذه المنطقة لأن الجميع انشغلوا بالمناطق الصناعية. حكايات من زمن الطوفان ويتحدث عمال عما يسمونه أطول كابوس في حياتهم والذي لن ينسوه أبدا. يقول عبد الرحيم. ب، الذي يعمل في مصنع بمغوغة، إن «بداية المطر كانت طبيعية بعد زوال الخميس ولم يكد ينتبه إليها أحد، ومع مرور الوقت بدأ القلق وصرنا نشاهد حركة غير عادية لمسؤولي المصنع، ثم تسربت المياه إلى الداخل، وبعد ذلك حلت الكارثة بسرعة لم يكن أحد يتوقعها». ويضيف عبد الرحيم: «توقفنا عن العمل وحاولنا إنقاذ ما يمكن إنقاذه من السلع، لكن الماء داهمنا بسرعة وأصبحنا نفكر فقط في إنقاذ أنفسنا، لكن الوقت كان قد فات من أجل مغادرة المصنع لأن المنطقة كلها كانت محاصرة بالمياه في ما يشبه الطوفان». ويحكي عبد الرحيم طرفة تبدو مضحكة بعد الفيضانات، لكنها كانت مأساة خلالها «كان العمال ينظرون إلى بعضهم البعض ويعتبرون أن الذي يتمتع بقامة أطول لن يموت في البداية، وأن الموت سيبدأ بقصيري القامة، وعندما وصل الماء إلى متر ونصف بدأ الإحساس بالموت يقترب، وانتشرت هستيريا من الرعب وحالات إغماء وبكاء ونحيب، وكان عمال يحاولون الاتصال هاتفيا بعائلاتهم في مدن وقرى مغربية بعيدة من أجل وداعهم، لكن الاتصالات الهاتفية كانت منعدمة». هذه الحكاية تعكس أو تتشابه مع آلاف الحكايات الأخرى في منطقة صناعية تفتقر إلى أدنى مقومات السلامة. لقد تحولت المنطقة الصناعية إلى ما يشبه السد في ساعات قليلة، وحاول عدد من العمال مغادرة معاملهم، وآخرون صعدوا الطوابق العلوية، وكانوا يفكرون في اختراق السقف والوصول إلى الأسطح. الذين غامروا وغادروا المعامل بدوا وكأنهم أموات خرجوا من القبور. ويحكي سائق سيارة كان محاصرا مع مئات السيارات الأخرى في طريق تطوان أنه رأى في الثالثة من صباح الجمعة أشخاصا مغطون بالوحل يأتون من ناحية المصانع فاعتقد لوهلة أنهم أموات بعثوا من قبورهم. كان المشهد مرعبا وصعبا على التصديق. حتى أفراد الشرطة، الذين ظلوا تحت زخات المطر من الواحدة ظهرا حتى الثالثة صباحا، كانوا يرون ما يجري أمامهم وهم غير قادرين على التصديق. وبعيدا عن المناطق الصناعية تطوع بناؤون وحملوا الناس على الطراكسات كأكوام الحجارة وعبروا بهم الطريق، وفي منطقة الكورنيش فاضت المياه على المقاهي والمطاعم والشقق. وفي منطقة بلاصا طورو تحكي فتاة كيف أنها كانت غارقة في المياه حتى بطنها، وكانت تسير خلف شاب يسبقها بخطوات وهما معا خائفان من السقوط في حفرة مفتوحة. كانت الفتاة تتوقف كلما توقف الشاب لأنها لا تريد أن تسبقه فتسقط قبله. لكن فجأة سقطت الفتاة في حفرة وانتبه إليها الشاب وأنقذها بأعجوبة. هناك مئات الحكايات الأخرى، بعضها مبك وبعضها يثير الضحك، وشر البلية ما يضحك. والناس في طنجة يذكرون أن القناة الثانية «دوزيم» حولت المأساة إلى ملهاة، عندما ظهرت امرأة أمام الكاميرا تقول إن هذه الأمطار فرصة جيدة لكي يمارس الناس المشي قليلا. ليست هناك سخرية من مآسي الناس أكثر من هاته. خسائر عاصمة البوغاز من فيضان الخميس مسؤولو طنجة بدت عليهم علامات الارتياح وهم يعقدون ندوة صحافية مساء الجمعة الماضي بمقر ولاية طنجة المدينة. كان الوالي يتحدث وكأنه خرج من نكبة كان من الممكن أن تكون أكبر بكثير. وبينما كان الكثيرون يحصون خسائرهم وكانت المعامل تسرح آلاف العمال لأسابيع، فإن الوالي بدا رابط الجأش وهو يتحدث عما يمكن القيام به مستقبلا من أجل تجنب ما وقع. أما عمدة طنجة، الدحمان الدرهم، فتحدث وكأن ما حصل نعمة من الله لأنه، في رأيه، لم يمت سوى شخص واحد، «وهذه مسألة جد إيجابية»، حسب تعبيره الحرفي. لماذا إذن بدا الوالي مرتاحا، والعمدة يتحدث عن « المسألة الإيجابية»؟ السبب بسيط، وهو أنهما معا يعرفان أن الكارثة كان يمكن أن تكون أعظم، وأن آلاف العمال كان يمكن أن تبتلعهم المياه، مما كان سيؤدي إلى كارثة غير مسبوقة، ليس في طنجة فقط، بل ستكون كارثة على المستوى العالمي. هكذا يبدو إذن أن طنجة كانت محظوظة لأن فيضاناتها لم تقتل سوى بضعة أشخاص، لكن أمام الخسائر في الأرواح فإن الخسائر المادية تبدو مهولة. من بين أولى آثار الفيضانات أن أزيد من مائة مصنع ستقفل أبوابها لعدة أسابيع، يعني تشريد آلاف العمال ولو لفترة محدودة، وبما أن الأغلبية الساحقة من عمال طنجة هم من مناطق مغربية مختلفة، وأغلبيتهم الساحقة من قرى ودواوير بعيدة، فإن التوقف عن العمل سيدفع بهم إلى معاناة اقتصادية حقيقية، ويتخوف السكان من انتشار ظواهر سلبية في المدينة، مثل ارتفاع معدل الدعارة أو الانحراف. لقد تحدث الوالي في ندوته الصحفية عن عموميات، وقال إن الوضع عاد إلى طبيعته في مجموع المدار الحضري، وأن الجهود ستظل معبأة في الأيام المقبلة من أجل إصلاح التجهيزات والبنيات التحتية بالمناطق الصناعية المتضررة، لكنه لم يتحدث عن الحل الممكن لإغلاق عشرات المصانع وتوقف آلاف العمال عن العمل. القضية الثانية التي أصيبت فيها طنجة في الصميم هي سمعتها الاقتصادية. لقد ظلت الحكومة المغربية، ومعها سلطات طنجة، يروجون لطنجة كقبلة حالمة للاستثمار وربح المال، وهناك مشاريع كبيرة بدأت عملها في عدد من المناطق الصناعية، وأخرى في الطريق. وخلال الأشهر الأخيرة تم الحديث كثيرا عن استثمار شركة رونو – نيسان في المنطقة الصناعية الجديدة بالقرب من ميناء طنجة المتوسطي. هذا المشروع يحظى بدعم كبير من الحكومة المغربية، وشركة نيسان تعمل على التخلص من عمالها في عدد من البلدان الأوروبية من أجل افتتاح مصنعها في طنجة الذي سيوظف أزيد من 30 ألف عامل بطريقة مباشرة وغير مباشرة. ومؤخرا أعلنت هذه الشركة أنها ستستغني عن حوالي 2000 عامل في مدينة برشلونة الإسبانية، والسبب مرتبط دائما بمشروعها في طنجة. لكن ما هو موقف هذه المؤسسة العملاقة بعد فيضانات طنجة الأخيرة. هذا هو السؤال الذي يجب أن يجيب عنه مسؤولو طنجة في ندواتهم الصحافية، وليس عن «التعليمات الملكية وعودة الأمور إلى حالتها»، وهي كلمات من زمن الخشب. الضربة الثالثة التي وجهتها الأمطار لطنجة تتعلق بميدان العقار. لقد مارس المنعشون العقاريون في هذه المدينة دور فراعنة حقيقيين وبنوا أقفاص دجاج بها كثير من الاختلالات والأخطاء ويبيعونها بثمن الذهب. لقد جنى هؤلاء الملايير من وراء أناس محتاجين يصرفون مدخرات عمرهم من أجل الحصول على قبر الحياة. وما حدث خلال الفيضانات الأخيرة هو أن الكثير من العمارات الجديدة التي توجد في مناطق بعيدة عن أخطار الفيضانات غمرتها المياه أيضا بسبب أخطاء كبيرة في التجهيز. لقد انفجرت فيها مواسير المياه وفاض الماء على الشقق. هكذا اكتشف الناس أن طفرة العقار ليست سوى أكذوبة جديدة في مدينة تعيش على الأوهام، بدءا بوهم المعرض الدولي وانتهاء بمدينة الاستثمارات والميناء المتوسطي الكبير.