سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
عبد الحق منصف: تدريس الفلسفة في حاجة إلى تطوير لمواكبة تحولات المجتمع المغربي الأستاذ الباحث للمساء : مفاهيم الحداثة ضرورية لطرح قضايا الديمقراطية والعدالة وحقوق الانسان
في هذا الحوار يتحدث عبد الحق منصف، الأستاذ الباحث في الفلسفة والمدير المساعد للدراسات والبحث لدى المجلس الأعلى للتعليم، عن الدور الذي تقوم به الفلسفة في تحريك المجتمع والدفع به نحو الانفتاح على عالم الحداثة. كما يتحدث عن واقع الدرس الفلسفي ودعوته إلى تطويره حتى يتلاءم مع التحولات التي يعرفها المجتمع المغربي. كما أكد أن مفاهيم الحداثة ضرورية لطرح قضايا الديموقراطية والعدالة وحقوق الإنسان. - أي دور أصبح للفلسفة في عالم اليوم؟ لا بد من الإشارة إلى أن الفكر الفلسفي طوال تاريخه واكب مختلف التحولات التي عرفتها المجتمعات ثقافيا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا. طبيعته النقدية جعلته يتساءل دائما عن شروط إمكانيته كفكر داخل بنيات سوسيو – ثقافية مغيرة. وقد شكل الفكر الفسلفي الحديث نقلة نوعية في هذا الشأن، ذلك أنه، ووعيا منه بحتمية تحولاته، ربط سؤاله عن موضوعات بحثه بمساءلة إمكانيته الخاصة كفكر وشروط هذه الإمكانية وحدودها. في هذا الإطار، طرح كانط مسألة العقل الفلسفي وإمكانية التفلسف في علاقة ذكية بالحداثة والتحديث متمثلا كتنوير. وتلك جدلية عميقة تولدت داخل المسار التاريخي للمجتمع الغربي وثقافته الفلسفية العامة. أما في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، فإن سؤال الحداثة والتحديث وسؤال تقويض المفاهيم الحداثية في أفق ما يسمى ما بعد الحداثة غالبا ما طرح في إطار أكاديمي ظهر، حسبما يبدو لي، معزولا عن سياق تحولات مجتمعاتنا. فهي لا زالت تحمل ازدواجية صارخة بين التقليد والتحديث. ويبدو أن سؤال الحداثة والتحديث في هذا السياق أكثر أهمية وأولية من أسئلة ما بعد الحداثة، لأننا في مرحلة ينبغي أن نسعى فيها جميعا كباحثين ومفكرين وفاعلين في شتى المجالات العملية إلى بناء وتثبيت بنيات جديدة نرسي بواسطتها مجتمعا ديمقراطيا حداثيا تترسخ فيه إمكانية استعمال العقل، كسلطة في المعرفة وكمؤسسات تاريخية، في تخطيط السياسات العمومية، بما في ذلك سياسات المعرفة، وتنفيذها وتقويمها. في إطار هذه السياسات المعرفية، يمكن طرح الأسئلة المناسبة التي توجهنا نحو إعادة تقييم تراثنا الديني والسياسي والأنثروبولوجي والتاريخي واستثماره بشكل يخدم توجهنا نحو تحديث بنياتنا المجتمعية ودمقرطة مجالنا العملي برمته. هل من الضروري تبني خيارات ما يسمى بالعقل ما بعد الحداثي بمختلف مكوناته المعرفية والتواصلية والتأويلية والجمالية والقيمية الجديدة؟ ذاك أمر وارد جدا ومفيد، خصوصا حينما يقودنا إلى تفكيك البنيات الرمزية، التي تحكم مجالنا العملي، السياسي والاجتماعي والثقافي، والتي تعوق ولوجنا ثقافة الحداثة وقيم مجتمع المعرفة التي أشرنا إليها. إذا كانت المفاهيم الحداثية ضرورية بالنسبة لنا في طرح قضايا السلطة والديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان وتطوير بنيات المعرفة والاقتصاد والقدرات الفردية والأسرة والتربية والقيم الكونية، وعموما قضايا الشخص والمواطنة والإنتاجية النافعة، فإن المفاهيم ما بعد الحداثية ستكون مفيدة لنا أيضا في طرح قضايا ولوج مجتمع المعارف وقيمه الجديدة، وتكنولوجيا المعلوميات والاتصال، وتفكيك البنيات الرمزية اللاشعورية التي تحكم تمثلاتنا وأحكامنا حول ذواتنا، وبالتدقيق تمثلاتنا حول الجسد والأنوثة والذكورة والجنس والطفولة، وحول المطلق بشتى تجلياته، وحول التاريخ والحكاية والأسطورة وحضورها في معتقدنا ومخيالنا وتصوراتنا، وحول قضايا كثيرة تؤثر بشكل غير مباشر في حياتنا واختياراتنا وسلوكياتنا المدنية والأخلاقية. لذلك، يظهر لي أن قيمة الفكر الفلسفي في حياتنا، في انفتاحه طبعا على كل المكونات المعرفية الأخرى، تكمن في قدرته على استيعاب أسئلة الحداثة وما بعد الحداثة، شريطة استعمالها كأدوات لتفكيك تمثلاتنا وثقافتنا التي توجه سلوكياتنا المختلفة. في هذا السياق مثلا، يمكن أن نعيد قراءة تراثنا الثقافي المكتوب والشفوي أو المعماري...، دون أن نغترب بفكرنا لتمجيد صورة معينة عن الماضي وتحويلها إلى مطلق نقاوم به مسعانا للتحديث بدعوى أصالة غير تاريخية موهومة. وماذا عن الدرس الفلسفي بالمغرب؟ لا بد من الإشارة إلى أن تدريس الفلسفة بالمدرسة المغربية في حاجة اليوم إلى مزيد من التطوير حتى يتلاءم والتحولات الكبرى التي يعرفها المجتمع المغربي داخل محيط إقليمي وعالمي تتغير ملامحه بشكل كبير. فعلى مستوى التعليم المدرسي، عرف ديداكتيك الفلسفة تطورا خلال تسعينيات القرن الماضي، لكن توقف في وقت كان ينتظر أن يضاعف تطوراته مواكبة لما يعرفه الفكر العالمي من انشغالات كثيرة تمس البيئة والحقوق والحرب والسلم والعولمة والفقر والتنمية والمرض والجسد والعنف ومنظومات القيم وغيرها. وعلى مستوى التعليم الجامعي، ظل الفكر الفلسفي حاضرا في كليات بعينها (هي كليات الآداب والعلوم الإنسانية) ولم يقتحم كليات العلوم والطب والعديد من المدارس العليا للمهندسين وغيرها؛ مع أن قضايا التفلسف حاليا تهم إشكاليات كونية. وحتى داخل الشُّعب الجامعية التي تدرس الفلسفة، ظل تدريسها «كلاسيكيا» على وجه العموم، يركز على قضايا نظرية المعرفة والأُنطُلوجيا التقليدية. كما أنه، في طرحه للقضايا الحديثة والمعاصرة، يظل خاضعا للمنظور الشخصي للأستاذ الباحث، فيحصره في هذا الفيلسوف أو ذاك، في حين تقتضي المعالجة الأكاديمية أن يكون الدرس الفلسفي منكبا على قضايا كبرى وفق مقاربة متعددة المشارب: معرفية، سياسية، أنثروبولوجية، تاريخية، قيمية...، فبحث قضايا الجسد مثلا يتحول إلى درس حول فوكو، وبحث قضايا النص والتأويل يتحول إلى درس حول بول ريكور أو غادامير أو أمبرتو إيكو...، وهكذا تضيع القضايا الفلسفية وراء الأسماء الفلسفية. من جانب آخر، لم ينفتح الدرس الفلسفي الجامعي كفاية على العلوم الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية، وظل حبيس بيداغوجيا جامعية تحصره في قضايا محددة كالإبستيمولوجيا والوجود. وقد آن الأوان لإعادة النظر في هندسة التكوين الفلسفي الجامعي. - كيف يمكن في نظرك تصحيح وضع غياب مجتمع المعرفة وتشتت جهود الباحثين غير السليم؟ يمكن القول إن تفكيرنا في مجتمع المعرفة غالبا ما يكون محصورا في تمثل معين للمعرفة يربطها بمسألة مناهج الفكر ومفاهيمه والبحث والنشر والقراءة. من المؤكد أن قضايا كهذه تشكل جزءا من إشكالية مجتمع المعرفة، لكنها لا تغطي الإشكالية بكاملها. فمجتمع المعرفة (أو المعارف) له بنياته التحتية الأساسية: بنيات التربية والتكوين، بنيات البحث والابتكار من مختبرات ومعاهد ومراكز للدراسة، بنيات الإعلام والاتصال والتواصل من وسائط ووسائل وفضاءات لتبادل المعلومة ودراستها، بنيات التخطيط والتوجيه والتنسيق وبناء الاستراتجيات في مجال الدراسة والبحث وإنتاج المعارف، بنيات تمويل الاستراتيجيات المعرفية واستثمارها ونشرها وتعميم الاستفادة منها، بنيات تقويم هذه الاستراتيجيات وتطويرها. هكذا، فمجتمع المعرفة بقدر ما يتوقف على وجود نخب باحثة ومفكرة ومنتجة للمعارف، بقدر ما يتوقف أيضا على بنيات تحتية وتواصلية وهيئات للتخطيط والتقويم والتكوين، وعلى قاعدة مادية ورمزية تجعل المعارف رأسمالا اجتماعيا واقتصاديا، إلى جانب كونه رأسمالا ثقافيا. فدينامية مجتمع المعرفة متشعبة ومعقدة تلعب فيها النخب المنتجة للمعرفة، من باحثين وفاعلين في مختلف الحقول ومهندسين وتقنيين ومؤطرين وإعلاميين، دورا كبيرا جدا. من هذا المنظور أقول إن تأثير النخب الباحثة والمفكرة في حياتنا الثقافية واضح. وأضيف أن الاجتماعية والسياسية ضعيف جدا. قد يكون عامل عشوائية البحث والتأليف أحد الأسباب المفسرة لذلك؛ لكنني أرى أن هناك أسبابا أخرى ترجع إلى غياب منظور استراتيجي ببلدنا لمجتمع المعارف. طبعا لا يمكن إنكار الجهود التي بذلت ببلدنا في إطار إعادة هيكلة البحث العلمي والتقني منذ 1998، وكذا تمويل البحث، وإقامة بعض الهياكل التي تساهم في تخطيط هذا البحث وهيكلته (كأكاديمية محمد السادس للعلوم والتقنيات، والمركز الوطني للبحث العلمي والتقني...)؛ كما لا يمكن تناسي الجهود المبذولة مؤخرا لإرساء وتنظيم بنيات البحث الجامعية على وجه الخصوص.