رددت يهوديات مغربيات مسنات يقمن في إسرائيل، ليلة الأحد الماضي، في شريط وثائقي بثته القناة الثانية، أهازيج بأمازيغية منطقة تنغير، إحدى مناطق «المغرب العميق»، وبكين وهن يسترجعن أجزاء من «ذاكرة» العيش في هذه المنطقة، قبل أن يتجهن في حافلات «شحن»، نهاية الستينيات من القرن الماضي، رفقة أسرهن إلى إسرائيل. وقدم الشريط الذي أعده كمال شهبار، وهو من أبناء المنطقة المقيمين في فرنسا، شهادات مؤلمة حول ظروف «الرحيل»، وما عشنه من «تمزق» وهن يتركن المنطقة، وتحدثت إحداهن عن ظروف أخرى من «المأساة» وهن يصلن إلى إسرائيل. واستمع معد الشريط إلى عدد من المسنين في منطقة تنغير حول التعايش التاريخي الذي ساد بين اليهود والمسلمين. وتوقف في لقطات متكررة عند «ذاكرة» مهددة ب«الانقراض» بسبب الإهمال، وغياب مبادرات للحفاظ على الموروث اليهودي الذي يشكل رافدا من خصوصية هذه المنطقة. وتحدث عدد من اليهود، في إسرائيل، بأمازيغية المنطقة، وبالدارجة المغربية، وظهروا في منازلهم، وكأنهم يعيشون في المغرب، ودافعوا عن ضرورة إحلال السلام في منطقة الشرق الأوسط. وبدت على وجهوهم علامات «حسرة» على «قرار الرحيل» من المغرب أجبروا على اتخاذه بسبب حملات دعائية للحركات الصهيونية، وبالنظر إلى تخوفات مرتبطة بأولى بوادر استقلال المغرب وما يمكن أن يرافقها من «تطرف» في خطاب الحركة الوطنية، مع ما يمكن أن يشكله ذلك على وجودهم في المغرب. وفي سنة 1969، لم يبق أي يهودي في منطقة تنغير التي عرفت على أنها من ضمن المناطق التي تعرف وجود ملاح لليهود، بالنظر إلى أن اليهود والمسلمين كانوا يتقاسمون نفس الأحياء، ومنازلهم متجاورة. لكن في ظل غياب الاهتمام بهذا الموروث، فإن أجزاء من ذاكرة مناطق مثل دمنات وأيت عتاب وأوطاط الحاج وأزرو وأكدز وبومالن دادس مهددة ب«الانهيار»، ومعالم التراث اليهودي مهددة فيها بالانقراض. وبالرغم من أن مسني تنغير يتذكرون بكثير من «الحنين» الحضور اليهودي في المنطقة، والرواج الذي عرفته التجارة، والحرف التقليدية، والتعايش في إطار الاحترام المتبادل، فإن عددا من المقابر اليهودية، حاليا، أصبحت من «الذاكرة المتخلى عنها»، كما هو الشأن بالنسبة إلى الأحياء التقليدية الطينية التي هجرها سكانها، وتحولت إلى أطلال تنهار أعمدتها، دون أن تكلف السلطات المحلية نفسها عناء التفكير في مبادرات من أجل الحفاظ على هذه الثقافة في زمن «تجتاحه» خطابات الإقصاء ونبذ الآخر من كل جانب. كان يهود المنطقة، قبل الرحيل، يقطنون في دواوير لم تكن فيها حواجز بين المسلمين واليهود، وكان هؤلاء يزاولون الفلاحة إلى جانب مزاولتهم مهن التجارة والصناعة التقليدية، وهي ممارسة نادرة لدى اليهود في المغرب. وعندما حان وقت «الوداع» تركت جل العائلات أمتعتها، وحتى بعضا من «خزائنها» وتجارتها للمسلمين. وفضل عدد قليل منهم الهجرة نحو المدن الكبرى، خصوصا الدارالبيضاء، واتجه بعضهم نحو دول أوربا الغربية، لكن النسبة الأكبر منهم تم توجيهها إلى إسرائيل، وتم «رميها» في «الجبهة» وأجبر أبناؤها على ولوج الجيش، وتحول عدد من الأبناء إلى أفكار اليمين واليمين المتطرف، في ظل الأوضاع الاجتماعية التي فرض عليهم العيش فيها، من قبل النخبة الإسرائيلية الوافدة من دول غربية، كانت هي المهيمنة على القرار في إسرائيل. وحسب سيمون ليفي، فإن الكثير من العناصر كانت وراء الهجرة. «فهناك الحركة الصهيونية، وهناك التثاقف المرتبط بفرنسا، وهناك تبعات الهزات الاقتصادية ثم التخوفات المرتبطة بالانعكاسات المحتملة للصراع العربي الإسرائيلي». ومهما يكن «فإن فترات الهجرة خلفت الإحساس بما يشبه النزيف سواء من قبل المكون اليهودي أو من قبل المكون المسلم»، يضيف ليفي في كتابه حول تاريخ وحضارة اليهود بالمغرب (منشورات طارق بن زياد). وأظهر الشريط الوثائقي، الذي بثته القناة الثانية جانبا مضيئا لدى عدد من هؤلاء من الذين لا يزالون يتذكرون رفاق الدرب في منطقة تنغير، ولا يزالون يتحدثون، وهم يبكون، عن هؤلاء الأصدقاء، ويسألون عن عدد من العائلات المسلمة التي تجاورهم بكثير من «النوستالجيا»، وهم يتلقون، في المقابل، دعوات مباشرة، من قبل مسلمين آخرين من المنطقة الأصل، كانوا في علاقة تعايش معهم، للعودة إلى «البلاد»، لأنهم هم كذلك ينتمون إليه. وقال معد الشريط، وهو يلتقط هذه اللحظات المؤثرة، إن هناك إمكانية التعايش مجددا في مغرب متعدد. وكان اليهود في منطقة تنغير يتعاطون حرفا تقليدية كالدباغة والنجارة واللحامة وغزل الصوف.. ويشهد المسنون من أبناء المنطقة، كما يظهر الشريط، على أنهم كانوا بارعين هذه الحرف التي علموها للمسلمين. وحافظ المسنون عليها، لكنها الآن تواجه بدورها «عصر الظلمات» بسبب منافسة المنتوجات الحديثة ذات الثمن البخس، وعدم إقبال الشباب على تعلم هذه الحرف، بالنظر إلى تطلعاتهم المادية الكبيرة، وما توفرها، في المقابل، من مداخيل هزيلة. وبوفاة المسنين ممن لا يزالون يقاومون «عوامل التعرية» تنقرض أجزاء من هذه الذاكرة الحية، وتدخل بعض منتوجاتها محلات توجه سلعها للسياح سرعان ما تختفي لعدم وجود من ينتج ويحافظ على استمرارية المنتوج. كما أجاد اليهود في صنع الحلي والمجوهرات. وكان من العوامل المشجعة ل»انتشاء» هذه الصنعة وجود منجم للفضة بضواحي المدينة. وبالرغم من اتفاق الباحثين على «استيطان» اليهود بشمال إفريقيا منذ القدم، فإن التحديد التاريخي للبداية أمر ما يزال يكتنفه الغموض. ومن المتخصصين في المجال من يرجع بداية استقرار اليهودية بالمغرب إلى القرن ال10 قبل الميلاد، حيث قدمت مجموعة من التجار للبحث عن الذهب في السودان عن طريق الصحراء، وفضل بعضهم الاستقرار في المنطقة. وبعد ما يقارب خمسة قرون فر بعضهم، من الحروب، للالتحاق بإخوانهم في الصحراء. ويعتبر سيمون ليفي في كتابه بأن «احتمال دخول بعض القبائل الأمازيغية في اليهودية قبل الإسلام أمر أقرب إلى الصواب. ورغم أن المسألة ما يزال يكتنفها الأخذ والرد، فإن المؤكد هو وجود ورشة يهودية لضرب النقود بتودغا (تنغير حاليا) في نهاية القرن 8 الميلادي». وكانت سجلماسة، آنذاك، هي ملتقى القوافل التجارية بين الشمال والجنوب». واختار اليهود المغاربة الاستقرار في مناطق تحاذي الطرق التجارية، وقرب الموانئ، وفي الواحات الكبرى للصحراء التي لم تسلط عليها الكثير من الأضواء، بالرغم من أنها تشكل نماذج لتعايش تاريخي بين اليهود والمسلمين. واعتمادا على الأرقام التي أوردها سيمون ليفي في كتابه، واستنادا إلى إحصائيات 1960، فقد وصل عدد المغاربة اليهود إلى 159805 نسمة في مجتمع بلغ 11 مليونا في ساكنته. وفي سنة 1967 لم يبق من هذا الرقم سوى ما يناهز 60000 إلى 70000 نسمة. وبعد ذلك انخفض الرقم ليصل الى 40000 نسمة. وقد استمر الرقم في الانخفاض في السنوات اللاحقة، ليصل إلى ما يقارب 20000 سنة1975. ولم تعد تحتفظ منطقة الجنوب الشرقي إلا ببعض الأسر اليهودية فقط في بلدة الريش التابعة لإقليم الراشيدية. ويبلغ عدد الذين رحلوا بمعية أسرهم إلى إسرائيل ما يقارب 400000 نسمة وفي فرنسا يصلون إلى 80000 و20000 في كندا وما بين 10000 إلى 15000 بالولايات المتحدةالأمريكية. ويقيم الآلاف منهم في فنزويلا وفي أمريكا اللاتينية. ويختلف اليهود والمسلمون بمنطقة تنغير، حسب الذاكرة الجمعية، في طقوس وعادات «دورة الحياة»، لكنهم مع ذلك يتقاسمون الأفراح والأحزان. ويحضر اليهود مناسبات خاصة بالمسلمين، كما يحضر المسلمون مناسبات خاصة باليهود. ويصوم بعض اليهود شهر رمضان احتراما للمسلمين، ويتبادلون التهاني في الأعياد. ويحتكمون إلى نفس الأعراف في تدبير شؤون الحياة الجماعية، ويجتمعون في الدفاع عن «حوزة» القبيلة كلما واجهها تهديد «خارجي» بسبب خلافات كانت تحدث بين القبائل بسبب نزاعات حول الحدود والمراعي... لكن إحدى المسنات، تحدثت في الشريط، وفي قلب إسرائيل، قالت إن هذا الوضع بدأ في التغير في سنوات الخمسينيات، وهي السنوات التي عرفت في المغرب بتنامي الخطاب القومي الذي استغلته الحركات الصهيونية لشحن آلاف اليهود في مناطق المغرب العميق إلى إسرائيل، وأظهر الشريط حنينا يساور عددا منهم للعودة إلى المغرب، على الأقل لاسترجاع جزء من هذه الذاكرة التي تؤرخ لتاريخ عميق للحضور اليهودي في المغرب.