أشد ما يفزع الضمائر أن تجد قوميا عربيا يدافع عن نظام طائفي عائلي سارق قاتل كالنظام السوري، وبعض هؤلاء ليس قوميا عربيا ولا يحزنون، بل مجرد مرتزقة صغار على موائد النظم، وكلما سقط نظام بحثوا عن غيره، واستمرؤوا رذيلة إهانة القومية العربية، كأن القومية العربية هي المرادف الفكري لجرائم التسلط والنهب والتدمير الدموي للحرث والنسل. نعرف أن بعض هؤلاء القوميين الضالين ليسوا مرتزقة، وقد تدفعهم مشاعر فيها بساطة التلقائية المتحيزة إلى نظم دون غيرها، والميل المزمن إلى تصديق اللافتات والشعارات، والنظر إلى القومية العربية كفكرة معلقة، لا علاقة لها بوقائع وأحداث وتطورات الحياة اليومية للناس ولا ارتباط لها بالتغيير الاجتماعي وطبائع النظم، وتلخيص القومية العربية في جانب وحيد هو العداء للاستعمار والصهيونية، ودون التفات إلى شخص وطبيعة من يعادي أو يدعي العداء، وقياس معايير الصدق والكذب، فلا يصح بالبداهة أن تصدق شخصا أو نظاما يدعي العداء للاستعمار، بينما هو لا يفعل شيئا غير تهيئة الظروف لتمكين الاستعمار والصهيونية، وبناء تشكيلات عصابية عائلية تنهب الثروة وتحتكر السلطة وتقمع المعارضين وتعذبهم وتقتلهم وتذبح شعوبها وتجرف الصناعة والزراعة والسياسة والثقافة ولا تعدو أن تكون قوافل جراد تأكل الأخضر واليابس، ثم تجد من يروج لها أو يدافع عنها بدعوى أنك لا تطمئن إلى البديل المحتمل، وكأنك تحل نفسك محل الشعب نفسه ومحل الأمة كلها، بينما تدعي أن الشعب هو المعلم وأن الأمة هي صانعة التاريخ، وتردد ضجيج الأسطوانات المشروخة، ثم تلصق الشعارات على حافة الحنجرة وتدافع عن نظام بشار الجزار، تماما كما كنت تدافع عن نظام القذافي المعتوه وكأن هناك فرقا، أي فرق، بين نظام بشار ونظام المدعي لخدمة الحرمين أو بين نظام القذافي ونظم إمارات الخليج، وكلهم بالمناسبة يدعون وصلا بالعروبة والقومية العربية ويقيمون نظما ديناصورية ناهبة ذاهبة، فلن تترك الثورات العربية المعاصرة أحدا منهم في كرسيه المغتصب، وسوف تنتهي بهم جميعا إلى حطام تذروه الريح. أعرف أن بعض القوميين العرب من غير المرتزقة لديهم كلام يقولونه ويستحق الالتفات والمناقشة، من نوع أنهم يقرون بسوآت النظام السوري جميعا، لكنهم يتخوفون من سقوطه وأثر السقوط على حركات المقاومة المسلحة في لبنان وفلسطين والعراق، وهذا كلام يضل مظانه، فالمقاومة من حيث المبدأ لا تنشأ في فراغ ولا تصمد بغير ارتكاز إلى قاعدة شعبية حاضنة وحامية، وليس الاستناد الموقوت إلى صداقة ومعونات نظم، فحزب الله مثلا ليس في حمى إيران ولا في حمى النظام السوري، ونقطة ارتكازه هي القاعدة الشعبية الواسعة في لبنان نفسه، كذلك حركة حماس في فلسطين وحركات المقاومة العراقية البعثية والإسلامية، فقاعدتها الشعبية العراقية هي سر حياتها وحامية وجودها، والشعب السوري في غالبه السني- هو الذي ساند ودعم المقاومة الشيعية اللبنانية، وليس النظام السوري الذي لا يصح أن ينعت بوصف المقاوم ولا الممانع، فلم يطلق النظام رصاصة واحدة في اتجاه الجولان المحتل منذ حرب 1973، وظل النظام يبني جيشا جرارا ويحشد ويستورد عتاد الدنيا وأسلحتها ويضخم عضلاته العسكرية والأمنية، لا لكي يحرر الجولان ولا ليدخل في صدام مع إسرائيل التي أهانته وأذلته وقصفت أراضية مرارا، وكان يتهرب من المواجهة دائما بالعبارات الشهيرة التي أثارت عليه سخرية العالمين، من نوع أن مكان المعركة وأوانها لم يأت بعد أو أنه لا يستدرج إلى حرب إلى أن يأتي الموعد المناسب الذي لا يأتي أبدا، بينما بدت حركته سريعة منطلقة مبادرة دامية، حينما تعلق الأمر بتمرد شعبي سلمي يطلب الحرية، ويتباهى النظام بانتصاراته التي يحققها على شعبه السوري في حمص وإدلب ودير الزور وريف دمشق، ثم يغطي عوراته بالحديث عن جماعات إرهابية مسلحة، وكأن العشرة آلاف شهيد سوري إلى الآن، وعشرات الألوف غيرهم من المصابين والمعاقين، ونصفهم من الأطفال والصبيان والبنات والنساء والشيوخ، كأن هؤلاء جميعا من الإرهابيين وأعضاء تنظيم «القاعدة»، بينما بشار الأسد «بسلامته» ليس قاتلا ولا إرهابيا ولا سليلا لعائلة ظالمة شفطت السلطة والثروة وأذلت الشعب السوري أجيالا وراء أجيال، باسم القومية العربية التي هي منهم ومن أشباههم براء. وبعض القوميين العرب من غير المرتزقة قد يقولون لك كلاما آخر، وبعضه يستحق الالتفات الجدي، فهم يسلمون بعورات النظام السوري وبفساده ودمويته المستحكمة، لكنهم يلفتون النظر إلى عورات ظاهرة لقطاعات تنتسب نفسها إلى المعارضة السورية أو تنتحل صفة القرب والحديث باسم الثورة الشعبية، وهذا كلام حق قد يراد به الباطل، ففي هذه المعارضة السورية في الخارج بالذات أصوات مريبة، وبعضها من عملاء المخابرات الأجنبية أو من المرتزقة على موائد نظم العفن الخليجي، بل ومن عملاء مخابرات النظام السوري نفسه ومن جماعات المعارضة المسلحة ما يصدق فيه الوصف السيئ، بمن فيهم مرتزقة تمولهم وتدربهم وتسلحهم جهات إقليمية ودولية تريد إلحاق الأذى بسورية والأمة كلها، وكل هذا صحيح وفي محله، لكنه لا يبرر ولا يسوغ النكوص إلى موقف يعادي جماهير وقادة وأبطال ميادين الثورة الشعبية السورية، فالحق لا يضاد بعضه بعضا، والموقف ضد عسكرة الثورة السورية لا يعني العداء للثورة ذاتها، والموقف ضد التدخل الأجنبي العسكري لا يعني خذلان الشعب السوري في ثورته ومحنته، فالعسكرة وإيحاءات التدخل الأجنبي مما يريده النظام، الذي يريد تحويل الثورة إلى حرب أهليه طائفية ويريد تحطيم سوريا وتفكيكها حتى لا تبقى بعده، وليس من ضمان لانتصار ثورة سوريا إلا أن تحافظ على سلميتها وذاتيتها الوطنية، والقوميون العرب الحقيقيون في داخل سورية يعون ذلك جيدا، يعارضون عسكرة الثورة ويرفضون التدخل الأجنبي، الاستعماري بالبداهة، ولا يتورطون في حوار لا يرجى منه نفع مع نظام هالك ويستحق أن يحاكم لا أن يحكم. وبعض القوميين العرب - من غير المرتزقة - يتخوفون من بديل محتمل للنظام السوري، ويتخوفون بالذات من فوز التيار الإسلامي في أول انتخابات شعبية حرة، وهو تخوف بلا شرعية ولا مشروعية، فمن حق الشعب وحده أن يختار، ومن حق الشعب وحده أن يخطئ وأن يصيب، وإذا اختار الإخوان المسلمين أو غيرَهم فهذا حقه الذي لا يماري فيه أحد، وهذا لا يضير القوميين العرب في شيء، بل يضعهم على المحك ويخلق تحديا يتطلب استجابة خلاقة، تعيد تنظيم الصفوف وبناء البرامج وتطوير فكرة وطنية اجتماعية نهضوية جامعة، تتوجه إلى كسب الناس، وتُبلوِر طموحَ أعرض الطبقات والفئات الشعبية، وتستعيد للإسلام كفاحيته الحقة ونبعه النبوي الصافي. وباختصار، إذا كنت قوميا عربيا حقيقيا فاعرف مكانك، وقف مع ثورة الشعب السوري لا مع النظام الهالك، قف مع الناس لا مع الحراس.