تحركت الشعوب العربية، جابت الشوارع، واعتصمت، وبحت حناجر شبابها، وتردد الشعارات التي لم يسبق للشارع العربي أن حلم بها حتى في المجالات الضيقة سرا أو علنا، في رحاب الجامعات مثلا أوفي منتديات الحركات الاجتماعية والنقابية، فقيل إنها ثورة عربية قحة، وقيل إنها من صنع الغرب، لك أن تقول عنها ما شئت، فنحن ألفنا أن ننسب كل ما هو جميل إلى الغرب، واليهود، إلا أنه أيا كان مصدر شرارتها فهي تعبير حر عن صحوة شبابية، وهي تجربة جديدة تجسد على العموم وعيا مجتمعيا أسس لمسار ذهنيات وسلوكات جديدة تتسم بالقدرة على تغيير الشعب للإوضاع، والوقوف في وجه الاستبداد، لكن إلى أي حد يمكن أن نطمئن لهذه الثورات ولمستقبلها؟ ومن يا ترى يضمن لنا عودتها إذا ما جار علينا حكامنا؟ ومن يضمن أنها هي نفسها لن تخلق لنا بعد عقد أو عقدين من الزمن حاكما متسلطا جديدا، يعيد إنتاج تاريخ ما قبل الثورات. إن الحاكم العربي يولد بطلا ويموت قديسا في نظر العامة والخاصة، وقد يولد إنسانا عاديا، تزج به جرأته أو ظروف بلده، أو التدخل الأجنبي في دهاليز الحكم بغض النظر عن مستواه التعليمي أو العلمي، فيستأنس، ويأنس به المحيط ، فيقوم البعض بالنفخ فيه بالمزامير والطبول والألحان والصور الضخمة التي تحتل الشوارع والساحات ، ويسخر الإعلام بمختلف أدواته وأجهزته لعد كل خطوة يخطوها باعتباره بطلا وزعيما عبقريا، إلى أن يتجذر ويؤمن لنفسه الفضاء، ويخص ذويه بأعلى المناصب والرتب والامتيازات، فالحاكم العربي يحكم ، وزوجته تحكم، وابنه يحكم، وأخوه يحكم، وصهره يحكم، وقد تتبقى بعض الرتب للجيران وأصدقاء الطفولة فيكون لهم ما يختارون، حينئذ فقط يتجبر، وينفرد بكل شيء، وتبدو كل شخصية سواه قزما، لا يفقه في السياسة ولا في الكياسة،وأمام هذه الهالة يتجرد الشعب من الحس النقدي، يتقبل الأمر بل يعتبر تمجيد حاكمه جزءا من القيم الوجدانية والدينية والوطنية، وهكذا يصنع الشعب حكامه والمتسلطين. فلا صدام كان يمكن أن يصبح زعيما لولا الشعب، ولا القذافي كان يمكن أن يحكم أكثر من أربعين سنة لولا العاطفة الجياشة التي كانت تحيط به،ولولا الشعب لما أمكن لبن علي أن يغتني، و لمبارك أن يسود ويفكر في خلافة ابنه، فالشعب في الحقيقة مسؤول عن جزء مما هو عليه الحاكم، سواء بالتصفيق أو السكوت دهرا عن الجرائم والمخالفات،ولكن هل كان لهذا الشعب أو ذاك أن يقول لا؟ ربما كان ذلك صعبا لأن الحاكم كان يعرف كيف يستقطب الشعب، وكيف يلعب على ثلاثة أوتار حساسة تشكل أضعف نقطة في مقومات الشخصية العربية الإسلامية، وتر العامل الديني ووتر العامل القومي العربي،ووتر العدو الخارجي، إلى أن يصبح قوة تخيف كل مواطن سولت له نفسه التفكير فيما يغضب الحاكم.. فتتخذ علاقة الحاكم بالشعب صفة الزعيمفوبيا، ويتحول وضع البلد إلى استعمار ذاتي، أي أن الشعب والحاكم كلاهما يستعمران الوطن، تلغى فيه حرية التعبير، ويعدم الخروج عن الإجماع، يطغى فيه تمجيد ذات الزعيم وتقديسها، واعتبار الحاكم الحامي والمخلص، وأن ليس سواه رمزا قادرا عل توحيد البلاد، وتجنب الاقتتال القبلي والصراع الإقليمي، هو ضامن الأمن والأمان ، وأمام هذه الهالة القوية يصبح المواطن الساذج الغيور على بلده خائفا من التمزق والإرهاب، و يتقبل الوضع كما هو.ويعتبر هذا الرجل بهذه السمات أبا وجب توقيره، والبر به، ورجلا حكيما وجب التمعن في أقواله وحكمه، حتى ولو قال “المرأة أنثى والرجل ذكر”، وكل من وقف في وجه الزعيم مارق، وملحد خائن لشعبه ووطنه، وناكر للجميل، ولعل هذا من أسباب ظهور المعارضة التي تخون كل الموالين فتعتبرهم” بلطجية” أو مأجورين ، فتخطئ بهذا التعميم في حق جزء كبير من الشعب ، رغم أن طائفة كبيرة منه إنما وقعت في فخ الذهنيات السائدة وتشبعت بها ، وهي في الحقيقة تخاف عن الوطن ، وتناضل كما تناضل المعارضة عن قضيتها، وعن حرية الوطن واستقراره، ولا فرق بين أفراد الشعب غير المأجورين الذين يدافعون عن النظام حاليا وبين المعارضين الرافضين الذين صمتوا عقودا كثيرة إلى أن جاءت حملة الربيع العربي، وهم فوق ذلك لا يختلفان إلا في المرجعيات، و هذا الخلاف يستدعي الحذر من الأوتار المذكورة ومن العازفين عليها، ويستدعي عدم الانسياق وراءها بدون تمحيص . فليس كل من ادعى الإسلام ينال حظا من رضانا ويقظة من ضميرنا، وليس كل من أجهر بدفاعه عن القضية الفلسطينية موضع ثقة و أمان، فلغة المصالح الخفية هي المحرك الأساس، فلا أميركا عندما كانت ترفع شعار الإيمان في مواجهة الشيوعية كانت قريبة إلى الإسلام، ولا عندما جندت بلادن في افغانستان كانت تدافع عن حرمة المسلمبن، ولا إيران التي اتخذت من فلسطين القضية الجوهرية في سياستها العلنية ترغب في تحرير فلسطين وإزالة إسرائيل من الوجود. وحتى تركيا ، لما أرادت أن تخلق لنفسها مكانة دولية ولاسيما بعد فشلها في دخول السوق الأوروبية المشتركة اتخذت من فلسطين وسيلة لفرض أوراقها بعدما كانت لديها مع إسرائيل علاقات قوية كانت تمت بينهما حتى المناورات العسكرية المشتركة، والدليل على نواياها أنها لم تكن تطلب من إسرائيل سوى الاعتذار عما قامت به تجاه أسطول الحرية ...لذا فلنأخذ من هذا وذاك ما يلزمنا ولكن بحذر. والعرب أنفسهم لعبوا على هذه الأوتار ولا سيما في الأوضاع الصعبة لديهم، فصدام عندما تحركت القوى الغربية في اتجاهه، وفكر في حشد أصوات الشارع العربي قام بأمرين ، هما كتابة” الله أكبر” في العلم العراقي وضرب الديمومة، ومثله فعل القذافي لتحريك الملاين عندما اقترب إليه لهيب الثورة فردد إن هؤلاء مرتزقة ملحدون كفار، وأبدى استعداه للتعامل مع الجماعات الدينية المتطرفة في مواجه الكفر والغزاة. وبشار مافتئ يردد أن ما يجري في بلاده مؤامرة ضد الممانعة وتحجيم دور سوريا إقليميا ، وتكلم أحد الفقهاء التابعين له أنهم سيقومون بعمليات استشهادية في أمريكا وأروبا ..إلا أنه في كل الحالات لم يخرج الشعب بالملايين، ولم يناصر الظلم والاستبداد. فما كل مرة تسلم الجرة، فهذه الأوتار لم تعد لها نبرتها الساحرة بين أصابع المستبدين، و لا خوف على القضية الفلسطينية، حتى وإن بدت كما يعتقد الإيرانيون وبعض الأطراف في لبنان والجزائر أن المقاومة مهددة إن تحرر الشعب السوري... فالشعوب العربية أدركت ضمنيا أنها ليس بالإمكان أن تكون فلسطينية أكثر من الفلسطينيين الذين أبوا كملوك الطوائف إلا أن يقسموا البلاد قبل التحرير، وصدق عليهم القول”تزبب قبل أن يتعنب”، وأنها أي الشعوب العربية لن تحرر فلسطين قبل أن تحرر نفسها من الاستبداد، وتحرير الأراضي المحتلة لا يتحقق بالشعارات والاستجداء والعيش عالة على المجتمع العربي و الدولي، وإنما بديمقراطية حقيقية تسري في دماء العرب والمسلمين، وبرفع اليد عن فلسطين ووضع الحد للتلاعب بها، واتخاذها ورقة لتحقيق أجندات عربية وأجنبية،ولتصبح قضية إنسانية تتبناها كل الدول،بدل أن يعتقد الجميع أن إسرائيل ضحية ومهددة من طرف محيطها بالزوال، وقد لا نستبعد زوالها فعلا ... ، ولكن ليس بالطريقة التي تعتقدها إيران ومن والاها ، بالحرب والعداء المجاني الذي لا يقوم على المنطق وإنما بالديمقراطية الشاملة في كل من المجتمعات الإسرائيلية والعربية، تتخلى إسرائيل عن أطماعها وهواجسها وازدواجيتها في التعامل مع المبدأ الديمقراطي،فدوليا تعتبر نموذجا للديمقراطية التي يفتقر إليها الشرق الأوسط، وولكن أيضا تعتبر استعمارية تجاه الشعب الفلسطيني بما تقترفه من جرائم واغتيالات، واختطافات وتوسع استيطاني، فإن لم تتكون دولة فلسطينية مستقلة في الأجواء الديمقراطية الحقة قد تولد دولة لاهي بالعربية ولا هي بالإسرائيلية، وإنما عبرية عربية ... وأخبرا يمكن أن نستمع إلى العازفين على هذه الأوتار، ونتمتع ببعض نبراتها لكن بحذر شديد، سواء كانت الأصابع العازفة أجنبية أو عربية، أو أصابع رئيسنا الذي لابد من أن يخرج من صناديق الاقتراع مصحوبا بأنصاره و بتسعة وأربعين في المائة من المعارضين، يراقبونه، ويتابعون حركاته وسكناته،ويحاسبونه، فتتغير مواقف الشعب منه بمقدار ما ينجزه أو يقترفه، كالمحرار(ميزان الحرارة) لا يستقر على حال، بل يتصيد الفرص الديمقراطية لتغييره كلما بدا منه تجاوز ا وسوء تدبير بعيدا عن التقديس والتمجيد .. MAKTOUB MOHAMED