ربما كان سؤال «تفكيك الميتافيزيقا»، يرتبط، على نحو صميمي، بتاريخ الفلسفة الغربية الممتدة من اليونان إلى هيجل. لذلك يتعذر طرح هذا السؤال في سياق الثقافة العربية، حيث «لا نجد أنفسنا، في رأي بنعبد العالي، أمام مادة فلسفية تراكمت عبر التاريخ. يواصل الكاتب المغربي عبد السلام بنعبد العالي، في كتابه الجديد «في الانفصال»(دار توبقال /2008)، مغامرة حشر الفضول الفلسفي في مظاهر فكرية وسياسية وثقافية من الحياة المعاصرة العامة، واجدا بذلك سبلا وممرات خاصة لتطويع المفهوم الفلسفي، الذي ألفى نفسه منقادا للتفكير بحيوية، ليس فقط في ذاته، وإنما أيضا في موضوعه في آن واحد، من زاوية نقدية، تكشف عن مواقع غير معهودة لتستر الميتافيزيقا، وتصلب البداهة، واشتغال السلطة، وتورم الدوغما. ومرة أخرى يكشف عبد السلام بنعبد العالي عن قوى عمل فلسفية قادرة على مواجهة كل القضايا التي تنسج سدى الحياة المعصرة، على نحو حيوي لم يعد معه سؤال الفلسفة منشغلا بشؤون السماء، وإنما متورطا، بطريقة صميمية، لكنها لا تخلو من سخرية، في شؤون الأرض، ومعضلات العالم. كتاب «في الانفصال» ينهض أساسا على تجميع لمقالات قصيرة، موسومة بالتكثيف وتنوع الموضوعات، لكنها تخضع لاستمرارية معينة، تتعلق ليس فقط بتركيب العبارة وصوغ التأمل، وإنما أيضا، وعلى نحو صميمي، بطرق تقطيع الفكر وانتشاء الغزو برقصة التفكيك، التي تكتسح مساحات مهمة على أرض الواقع أو المفهوم، في الوقت الذي تظهر فيه وكأنها تراوح مكانها، بسبب نوع من التكرار الملح، الذي يستدعي قضايا الكائن والهوية والانفصال والمحاكاة والذاكرة والاتصال والتقنية والوعي والتقليد والتحديث والداخل والخارج وغيرها، استدعاءَ تفكيك يتجاوز الثنائيات ويقيم في برزخ لا يجد تناقضا يعارض بين إنتاج العقل والخيال. يرى عبد السلام بنعبد العالي أن «الاتصال ظل مستقرا للذات تخلُدُ عن طريقه إلى الهدنة واليقين والتاريخ والتصالح والاسترخاء الفكري» (ص5/6). وهذا الاتصال مشدود إلى حركة التقليد، التي تلح على وصل الفروع بالأصول، صونا للتناغم والامتلاء والتشابه والوحدة، التي تحمي الوعي والذاكرة والهوية. أما الانفصال فيتأسس فلسفيا على «مفهومات العتبة والقطيعة والفراغ والتحول»(ص5)، كمفهومات تبني منظورا متقطعا للزمن وللذات، تمنع الحاضر من التطابق، كما تجعل الكائن «لا ينفك يهرب عن ذاته وينسلخ عنها»(ص6). بهذا المعنى، يجسد الانفصال حركة لا متناهية، تجعل الفروع تعيد النظر في أصولها، وتنظر إلى الزمن كتقطع وتباعد وحركة، تقيم الحداثة تحديدا داخل ثناياها، باعتبارها، جوهريا، «علاقة متفجرة للماضي بالمستقبل»(40). ربما كان سؤال «تفكيك الميتافيزيقا»، يرتبط، على نحو صميمي، بتاريخ الفلسفة الغربية الممتدة من اليونان إلى هيجل. لذلك يتعذر طرح هذا السؤال في سياق الثقافة العربية، حيث «لا نجد أنفسنا، في رأي بنعبد العالي، أمام مادة فلسفية تراكمت عبر التاريخ، يمكن أن نطلق عليها ميتافيزيقا عربية إسلامية»(ص8). لكن هذا الغياب، الذي هو بالتأكيد أحد أسباب تعثر الدرس الفلسفي في الجامعة والمدرسة العربية، لم يمنع الميتافيزيقا من التسلل من قنوات أخرى في ثقافتنا وقيمنا. لذلك، يعتقد بنعبد العالي أنه «إن لم تتراكم عندنا مذاهب فلسفية عبر تاريخنا فقد سكنت الميتافيزيقا عندنا المعمار والملبس والمطبخ، وانسلت إلى عاداتنا وتقاليدنا، وحددت طرق تحصيلنا للمعارف ومنهج كتابتنا للتاريخ، وسبل توليدنا للمعاني»(8). وهذا المظهر المتخفي للميتافيزيقا في ثقافتنا يطرح على الدرس الفلسفي العربي ضرورة مغادرة حقل الفلسفة التقليدي «ويحيا على هامشه ليطال الفنون والمعمار والآداب، وليتصيد الميتافيزيقا حيث تتستر وليلاحقها حيث تتوارى»(ص8). وهذا الدور هو ما ينهض به الآن الخطاب الفلسفي لعبد السلام بنعبد العالي، الذي اتجه -بعد مسار أكاديمي لامع ومضيء، نتج عنه عمله الكبير «أسس الفكر الفلسفي المعاصر»، فضلا عن دراسات فلسفية أخرى نحو تفكيك خطاب الميتافيزيقا، في كل مظاهره وترسباته، سواء الغربية أو العربية الإسلامية، واجدا بذلك سبلا لتنشيط السؤال الفلسفي، المنشغل بالنفاذ إلى أكثر القضايا صمتا في خطاباتنا الإعلامية والإيديولوجية والثقافية والفلسفية بل وحتى الواقعية. في سياق مراقبة تشكل القوى الفلسفية وطرق اشتغالها ونوع ولائها، في الزمن المعاصر، يتساءل عبد السلام بنعبد العالي: «هل يحل نجوم الفن والرياضة محل المثقفين؟». لا ينطوي السؤال على مجرد الرغبة في الاستفزاز، وإنما يتأسس على ملاحظة تتصل بجيل من «الفلاسفة» و«المثقفين» الفرنسيين الجدد، أمثال هنري ليفي وأندري غلوكسمان...، ومن يحذو حذوهم الآن أمثال لوك فيري وآلان فينكلكروت، المهيمنين على البرامج التلفزيونية الفكرية وغير الفكرية هذا الجيل أصبح لا يتورع عن إعلان ولائه السياسي لمرشحي اليمين، بعدما كانت الفلسفة، مع كبار المفكرين أمثال فوكو وديريدا ودولوز... في صف اليسار دائما، حتى ترسخ في اللاوعي أن «المثقف يساري بالطبع». إن هذا الانقلاب في دور المثقف الذي لم يعد يعني بالضرورة اليسارية والنقد، هو ما أخذ، في رأي بنعبد العالي، «يحدو بنجوم الأغنية والسينما (دبوز)، بل بنجوم الرياضة (تورام)، أن يشعروا بالمسؤولية السياسية التي أصبحت ملقاة على عاتقهم، خصوصا في هذا الزمن الذي أصبح يسمح لهؤلاء النجوم أن يفعلوا في السياسة أكثر مما يفعله أصحاب القلم»(ص 23). ربما يتواشج مع تدهور دور المثقف، في الوقت الراهن، تدهور قيمة الحياة نفسها، ليس فقط في «عين من يدمرها ويعبث بها، بل حتى في عين صاحبها نفسه»(ص31). ولعل الحروب والنزعات العنصرية والطائفية، التي جددت نشاطها، في كثير من بقع العالم، تكشف عن مدى حجم هذا التدهور، الذي أصبح لافتا للانتباه مع أحداث العراق، حيث أصبحنا نتعامل مع الموتى كعدد وقيمة إحصائية، مرشحة للتزايد، أكثر مما نتعامل معهم كأسماء أعلام ومواطنين «يتحددون بانتماءاتهم ومدنهم وأحيائهم»(ص 32). وربما كان لتدهور قيمة الحياة وشيجة كذلك بمفهوم «التيلي واقع»، الذي حول التلفزيون اليوم من أداة إعلامية تنويرية إلى دال خالص يحيل على ذاته كفراغ تام للمعنى، فلم يعد الخبر يحيل «لا على الحدث ولا على الواقع وإنما على الخبر ذاته بوصفه حدثا» (ص60). من هنا يسجل عبد السلام بنعبد العالي «ذلك الهوس بالسبق إلى الخبر والتفرد في بثه، اعتمادا لا على واقع فعلي» وإنما على «المصادر المطلعة» أو على الوسائط الأخرى، بحيث نغدو، في النهاية، أمام وسائط يحيل بعضها على بعض.. وأمام لعبة مرآوية تكتفي بذاتها أكثر مما ترد إلى واقع فعلي»(ص61). هذه فقط نماذج من القضايا التي تشغل بال فيلسوف مغربي، في هذا المؤلف القيم، الذي يسير على نهج أعمال أخرى سابقة للمؤلف، أصبحت تشكل اليوم نبرة خاصة في الكتابة والمقاربة المفككة للميتافيزيقا، التي تشتغل من مخابئها المتعددة، بعد أن تعقد العصر وأصبح يقوم على برمجة تلفزيونية وإعلامية للواقع والقيم والمشاعر، حتى غدت مشاهد الحروب والقتل أكثر من مألوفة، بحكم العادة التي حولتها إلى مجرد عدد.