لا أعرف بالضبط ما الذي حدث لي في الأشهر الأخيرة، فقد بات ما يلقب ب«ملك الغاب» محور نشاطي الذهني. كنت أظن أن ارتفاع تكاليف المعيشة سوف يصرف ذهني عن التفكير في أمر «ملك الغاب»، ولكن عبثا، فقد ازداد تفكيري فيه يوما بعد يوم. ظننت أن هوايتي القديمة علاجٌ جيد قد يفعل مفعوله السحري، ولكن كلما قرأت قصة أو قصيدة أو نصا جديدا تفاقم الوضع وتدهور تفكيري أكثر وأكثر نحو «ملك الغاب»، وكأنه لم يعد في هذا الكون الهائل ما يلفت انتباهي سوى هذا الذي أطلقوا عليه، ظلما وعدوانا وبهتانا، ملك الغاب. هكذا أنا، إذا ذهبت للتفكير في أمر ما لن أتركه حتى أصل إلى نتيجة نهائية حاسمة؛ هكذا وجدت نفسي، ودون إرادتي، مضطرا إلى إجراء مقاربات بين ما أقرؤه وبين «ملك الغاب» وحياته وتصرفاته وأفعاله. ذهبت للسّلام على ابن عمتي القادم من أمريكا لزيارة الأهل في فلسطين. بعد أن تصافحنا وتعانقنا جلس إلى جانبي، وكأنه شبع من الحديث معي رغم أننا لم نلتق منذ سنوات، وراح يتحاور ويضحك ويبتسم ويتجهّم ويتعجب مع جهاز الآيفون الذي بيده، الجهاز كان وسيطا جيدا لفتح حوار بيننا تفرّع بسرعة، فقد أسرع ليعرض عليّ مختارات من موقع «اليوتيوب» معظمُها يظهر فيها «ملك الغاب» على حقيقته. في حالات ومشاهد كثيرة مختلفة، وبسرعة، اكتشفت مبالغات العرب كالعادة، فقد أطلقوا عليه تسميات كثيرة: الحيدر، الضيغم، الضرغام، الهزبر، الهموس، قسورة، الليث، جعفر، أسامة ورد، عيدروس، وآخرها الممانع، وغيرها كثير؛ أما ملك الغاب، في رأيي المتواضع، فقد يكون ذلك الطائر الذي يغرّد على غصنه ثم يحلق ويبتعد ويطير ثم يقف مرة أخرى ويغرد كما يشاء بحرية مطلقة، ومن يدري ما الذي يهتف به ذلك الطائر، وما إذا كان يوافق على استبدال نفسه وحياته بحياة «أسد»! «ملك الغاب» ليس كما ظننا ونسجنا من أوهام، وهو لا يستحق كل تلك القصص التي حيكت عنه عبر الأجيال، ولا هو بذلك البهاء ولا الشرف العظيم ولا الكبرياء الذي يتحدث به الناس، وأكثر من هذا فهو ليس بتلك الفحولة التي يتمتع بها الحمار أو الحصان مثلا، وهناك طرق وحيل بسيطة تستخدمها حيوانات ظريفة تجعل من «ملك الغاب» أضحوكة يظهر فيها غباؤه، ولكن ما فاجأني أكثر من غبائه هو جبنه في أحيان كثيرة، يا الله كم نحن متأثرون بالدعاية المتناقلة من جيل إلى جيل والتي تصف الأسد بالأوصاف العظيمة، وكم من الصعب أن تغيّر وتبدل ما تلقنه الناس في صغرهم ثم تم تكريسه في وعيهم عبر دهور طويلة! كانت مفاجأة عندما رأيته يهرب حتى من الضبع، والأغرب أن حمار الوحش المسكين تمكن من إغراق اللبؤة (حرم ملك الغاب) في النهر ولم يسع حرم الملك سوى أن تهرب تاركة حمار الوحش الذي دافع عن نفسه بذكاء حين جرها إلى الماء رغم أن أنيابها مغروسة في عنقه، ثم طأطأ الحمار رأسه حتى غمر رأس اللبؤة بالماء، فما كان منها إلا أن أطلقت سراحه وهربت مذهولة خشية الغرق، يا سلام، إنها حكمة الحمار، ما عليك سوى الصبر والتحدي والدفاع عن نفسك وسترى جبن «ملك الغاب». شاهدت مقطعا آخر يصطاد فيه ما يسمى «ملك الغاب» غزالا، وقبل أن يقتله تماما يتدخّل ضبعٌ ويتحرّش به ثم يبعده عنوة عن الفريسة، وفوجئت بملك الغاب يضب ذيله بين ساقيه مثل أي كلب مؤدب ويتراجع أمام إصرار الضبع، والجميل أن الغزال استغل صراع الطرفين وهرب. في مشهد آخر، نرى خنزيرة باسلة استطاعت قهر ملك الغاب وهي تدافع عن أبنائها، فتنطحه مرة تلو الأخرى في بطنه، وهو بنذالة يحاول الاقتراب من صغارها لافتراسهم بينما يخشى الاقتراب منها وأخيرا يهرب مهزوما مذعورا أمام إصرارها. عندما رأيت هذه المقاطع، تذكرت قطة كانت قد أنجبت في صندوق من الخرق، عندما حاولت إخراج صغارها بخّت في وجهي ووقفت مدافعة ببسالة وشراسة جعلتني أنحني لها احتراما وأحضر لها وجبتي من الطعام كي تأكلها وتهنأ بها؛ بعد أيام وأنا أواصل إطعامها ظننت أنها اقتنعت بأنني غير مؤذ لصغارها، ولكن ما إن كنت أمد يدي باتجاه صغارها حتى تنكمش مستعدة للمواجهة حتى تخليت عن مشروع نقلهم. خلال هذه الحقبة «الأسدية» من نشاطي الذهني، دُعيت لتقديم دورات إبداعية إلى طلاب مدارس ابتدائيين، فطلبت منهم أن يؤلفوا قصصا واقعية حدثت معهم أو سمعوها أو يتخيلونها وعلى لسان الحيوان، لا لم أفاجأ بأن الأفكار المسبقة عن «ملك الغاب» كانت مسيطرة، فقد احتل حيّزا كبيرا في القصص على لسان الحيوان، فوصفوه دائما بصفات إيجابية وبالشجاعة والكبرياء وحتى بالعدل، هذا بالإضافة إلى الرسومات على جدران غرف الصفوف التي عجت بصورة «ملك الغاب»، ولهذا طلبت من الطلاب الكتابة مرة أخرى عن «ملك الغاب» بشكل جديد، ساخر، أن يكتبوا قصصا مغايرة عن هذا الوهم الكبير، أن يكشفوا من خلال قصصهم أنه جبان ونذل وقد يهرب أمام ضبع أو خنزير أو حمار وحش ذكي، وأنه أقرب ما يكون من الكلب وأن يغيّروا آراءهم المسبقة عنه. أعترف بأنني شعرت بالأسف عندما رأيت هذا المخلوق على حقيقته، فقد كنت أكن له في يوم من الأيام احتراما كبيرا وطغت عليّ فكرة أنه شريف وشهم و... إلخ، ولكن بعد مشاهداتي لأفعاله الدنيئة ووضاعته أعدت النظر في كل أفكاري السابقة عنه. إلى جانب هذا شاهدت مقطعا على (اليوتيوب) لنمر افترس قردة، ولكنه بعد أن افترسها اكتشف أنها كانت تحمي صغيرا لها حديث العهد؛ ويا للهول، فقد تقدم النمر، وبنبل قلب القرد الصغير بكفيه، ثم رفعه بأسنانه برفق شديد، ونقله إلى ما يشبه الوكر كي يعتني به، يا للشهامة والمروءة التي يفتقدها كثير من شبيحة البشر فيقتلون الأب والأم ثم يجهزون على الصغار. هكذا، احترقت صورة «ملك الغاب» التقليدية في المياه العكرة والدماء والوحول.. لا إنه ليس ملكا، لقد كان وهما كبيرا وانتهى إلى الأبد...