في إطار مواكبتها النقاش الوطني الذي يهم المسألة التعليمية في المغرب، تفتح «المساء» هذا الركن لكل الكفاءات الوطنية الغيورة على قطاع التربية والتكوين في بلادنا، من باحثين ومختصين وفاعلين اجتماعيين ورجال تربية، للإسهام -كل حسب قناعاته- في دينامية هذا النقاش. وقد رأينا، في الملحق التربوي، أن تكون مسألة بيداغوجيا الإدماج، أول الموضوعات التي نقاربها، لما أثارته من تجاذب ونقاش، تربوي، نقابي، إداري وإعلامي، خصوصا النقاش الذي ظهر على هامش قرار الوزارة القاضي بإلغاء العمل بهذه البيداغوجيا المثيرة للجدل.. بدأ اليوم تلويح -أو إقدام- وزير التربية الوطنية الحالي بإلغاء بيداغوجيا الإدماج وسط توترات ما، غير أن السؤال الحقيقي هو: «وماذا بعد؟».. هل يعني الإلغاء (ونتحدث من وجهة نظر تربوية وبيداغوجية وما يترتب عن ذلك) الارتكان إلى المزاج أم العودة إلى المألوف والمعتاد؟ هل سيتم الإلغاء هكذا بجرة قلم، دون الإجابة عن سؤال من كان سببا في إرباك إصلاح سنوات -1999 2011؟ هل سيكون الإلغاء مجرد جبر للخواطر، لأن النقابات وكثير من رجال ونساء التعليم منخرطون في الرفض ووجدوا أنفسهم منهكين بالآلة التقويمية لتلك البيداغوجيا، دون فائدة تذكر؟ علينا أن نستحضر أن بيداغوجيا الإدماج خلقت من حولها لوبيات من المنتفعين من أموال البرنامج الاستعجالي، وهي لوبيات قوية بحكم موقعها الإدراي -البيروقراطي. كما خلقت قوى المسترزقين من بيداغوجيا الإدماج هؤلاء، الذين سموا «الخبراء» (في تعارضهم مع مهام التفتيش الأساسية) والمنتفعين الإداريين، إضافة إلى سوق التأليف المدرسي وما له وما عليه وما يرتبط به. ومن بين هؤلاء من نعتنا يوما ب»العدو اللدود لوزارة التربية» واتصل بدار النشر حتى لا ينشر كتابنا حول بيداغوجيا الإدماج.. وهناك قوى أخرى تتكون من الذين لا قوة لهم، وهم الخانعون التابعون المنفذون، أجساد طيّعة تأخذ جميع الأشكال وفق رغبات الغير. وأخيرا سنجد قوى ستتشكل من دعاة الاستمرارية وعدم الارتباك، لأن الاجتهاد والتجديد يهزان عروشهم. ولكل هؤلاء وأولئك نقول إن علينا أن «نربط المسؤولية» بالمحاسبة، كما جاء في التصريح الحكومي، وأن نفكر جماعيا في الأدوار والمهام والوظائف وفق تصورات جديدة. وأول طريق نحو ذلك -في المكاشفة والمحاسبة- تتمثل في اختيار هذه البيداغوجيا (من اختارها، وكيف تم ذلك؟..) ثم كيف أصبح تجريبها المحدود في أكاديمية سطات ومكناس معمما، وأخيرا، ما مصير التقويمات الأولى التي سميت تشخيصا؟.. إيمانا منا بالمغامرة الفكرية والتربوية والبيداغوجية المسؤولة، سنعمل على نشر هذا المقال لنُسلّط الضوء على المعالم الكبرى لهذا ال»ما بعد»، ما بعد بيداغوجيا الإدماج مساهمة منا في وضع اليد على ما أغفله الإصلاح منذ 2000 واستحضارا لما ينبغي أن يكون عليه نظامنا التعليمي التربوي في العالم.. إنه مقال يحيل ويشير -كما قال الحكيم اليوناني ولا يدّعي الحقيقة ولا يريد أن يكون مصدرها ونقطة إشعاعها. كما أنه لن يكون جوابا أحاديا يسجل انتصارا أو زعامة أو مشيخة، بل إنه إشارات وتنبيهات، لأن الإجابات الفعلية هي إجابات جماعية، وبمعنى آخر، إن شأن التربية والتعليم -كما ورد في الميثاق الوطني للتربية والتكوين- ينبغي أن يكون شأنا وطنيا جماعيا وتشاركيا، وتلك هي المنهجية التي حاذ عنها الإصلاح منذ 2001 إلى اليوم. ستكون خارطة طريقنا واضحة، تهتم بالأساسيات أو بالأولويات الكبرى وليس بالمسائل التقنية والتقنوية. وبناء على فرضية العمل هاته، نقترح تناول القضايا المستعجلة التالية: أولا: مهنة التدريس اختيار سياسي تعاقدي: لا شك أن خطاب المهنية في التربية والتعليم والتكوين يطرح، اليوم، مشاكل كثيرة، وغاياته هي تغيير المهام والأدوار الجديدة التي ينبغي أن يقوم بها المدرّس(ة) والمَدْرسة في آن واحد، بالنظر إلى التحولات الكثيرة التي يعرفها تطور مهنة التدريس وتطور وظائف المدرسة عامة في استجابتها لمحيطها السوسيو -اقتصادي. غير أن ذلك لا يعني أن مهنة التدريس تقوم على وصفات جاهزة ينبغي تنفيذها، موضوعة من طرف أصحاب الخبرة أو مكاتب الدراسات. فمهنة التدريس ليست «حرفة» تُتوارَث أبا عن جد أو من صانع إلى صانع، أساسها توارث سر مهني وتقنيات وأدبيات في وسط اجتماعي منغلق. ما سنلاحظه، ونحن نتتبع تطور الحرف والمهن وصولا إلى نموذج الشغل مع تايلور، أن الحرفة تحدد قاعدة الانتماءات الاجتماعية والمهنية والاعترافات المهنية، بينما يعمل نموذج الشغل أو منصب الشغل على تحديد أشكال أخرى من الاعترافات والانتماءات المهنية، علما أنه كان في السابق مع كارل ماركس يعتمد الانتماء الطبقي كانتماء يحدد الهوية، أي الهوية الاجتماعية للعامل.. غير أن هذين النموذجين سيعرفان أزمة كبرى مع النموذج الكفاياتي، المرتبط بالمكتسبات والقدرات والمهارات، أي المرتبط إجمالا بدراسة منصب الشغل، الذي تبينت محدوديته، إلى تغيير الأدوار والاستعدادات المهنية والتكوينات المستمرة، أو لنقل، المنصب المرتبط بمرجع الكفايات. هناك، إذن، نوعان من الانتماءات المهنية يعرفان أزمة اليوم هما الانتماء الطبقي (الانتماء إلى الطبقة العاملة) والانتماء الحرفي (بالمعنى القديم للفظ). وإن ما هو في حيّز الظهور الآن هو الانتماء إلى المقاولة، الانتماء لتنظيم الشغل أو الانتماء إلى المؤسسة المدرسية (المدرسة المستقلة، على غرار استقلال المقاولة)، مما يتوجب معه التفكير في نمط جديد من النقابات يواكب هذا التحول، الآخذ في الظهور. سيرتبط النموذج الكفاياتي بالتأهيل كطريقة لتأهيل العلاقة بين العمل وقدرات العامل وتصنيف ذلك وفق درجات التعقيد، لتتأتى الوظيفة وإمكانية المراقبة والتقويم بدقة. إن تحول العمل أو النشاط العملي جعله تعبيرا مباشرا عن قوة فكر وفعل الفرد ومعرفته وذكائه العملي والتزامه ليصبح الفرد، في النهاية، ذاتا وفاعلا في الآن نفسه. وخلاصة الأمر هي كيف تم المرور من الحرفة إلى العمل، ومن العمل إلى الشغل، ومن الشغل إلى التأهيل، فالكفاية ثم إلى القابلية للتشغيل؟.. أستاذ باحث في علوم التربية - د. الحسن اللحية