لا يمكن وصف هذا المكان لأنه فريد من نوعه، يفوق قدرتنا على التخيل. سوف نعتبره -على وجه التقريب- حديقة شاسعة مليئة بأشجار كبيرة مثمرة وزهور رائعة الجمال، تتمايل بفعل موجات من نسيم منعش لا مثيل له. الحديقة لها بوابة مستديرة مكللة بالورود، يقف أمامها رجل وسيم ملتح يرتدي ثوبا ناصع البياض ويشع من وجهه نور غريب. في أنحاء الحديقة ينتشر آلاف البشر الذين تبدو عليهم آثار النعمة والفرحة. بين الحين والحين، يتوجه الرجل إلى البوابة ليستقبل الوافدين الجدد. بالأمس، وقف الرجل ليستقبل البابا شنوده الذي تقدم نحوه بخطوة مستقيمة نشيطة. اختفت التجاعيد تماما من وجه البابا واستقام ظهره وتخلص من الآلام وارتد شعرا أسود تماما كأنما عاد إلى العشرينات من عمره. انحنى الرجل وقال: - أهلا وسهلا يا قداسة البابا، شرفتنا. تطلع البابا حوله بدهشة وقال: - أهلا يا ولدي.. ما اسمك؟! - أنا الملاك الحارس. - كيف عرفت بمجيئي؟! - أنا أعرف كل شيء عن ضيوفي لأني مكلف باستقبالهم.. إتبعنى من فضلك. تقدم الملاك الحارس وخلفه البابا شنوده. مشيا في ممر بين الأشجار تحيط به صفوف من الأزهار الملونة.. في نهاية الممر، فوجئ البابا بأربعة أشخاص واقفين يبتسمون ويلوحون كأنهم ينتظرون وصوله. لاحظ أن أحد الواقفين شيخ معمم يرتدى قفطانا. لوح لهم البابا بحرارة. أصبحت حركة يده الآن أقوى بعد أن استرد صحته تماما.. وقف الملاك الحارس بين البابا ومستقبليه، وقال بصوت مرح: - كل ضيوفنا المصريين كانوا يريدون أن يكونوا في شرف استقبالك.. لكننا اخترنا هؤلاء الأصدقاء الأربعة كممثلين عن زملائهم.. فليتقدم كل واحد فيكم ويعرف بنفسه. تقدم الشيخ وصافح البابا قائلا: - السلام عليكم ياقداسة البابا. أنا اسمي الشهيد عماد عفت من شيوخ الأزهر، وقد قتلوني بالرصاص أثناء اعتصام مجلس الوزراء. اتسعت ابتسامة البابا وشد على يده بحماس. ثم تقدم شاب وقال: - شرفتنا يا قداسة البابا.. أنا الشهيد علاء عبد الهادي.. طالب في كلية الطب جامعة عين شمس... قتلوني بالرصاص في مجلس الوزراء قبل موعد تخرجي بأيام قليلة. تراجع الدكتور علاء خطوتين، وتقدم الشاب الثالث فانحنى وقبل يد البابا، ثم قال: - أنا الشهيد مينا دنيال.. قتلوني بالرصاص في مذبحة ماسبيرو. رسم البابا علامة الصليب، ثم تقدم الشاب الرابع وقال: - يا سيدنا أنا دهسونى بالمدرعة في ماسبيرو. اسمي الشهيد مايكل مسعد.. رسم البابا علامة الصليب مرة أخرى وبان الأسى على وجهه ثم قال: - أنا سعيد بصحبتكم. ها قد عرفتم أن الشهداء يكونون مع الرب ولا يموتون أبدا.. أشار الملاك إلى الشهداء فجلسوا على الأريكة بينما جلس البابا بجوار الملاك على أريكة مقابلة . ابتسم الشيخ عماد وقال: - نحن المسلمين نؤمن بأن الشهداء لا يموتون وإنما هم أحياء يرزقون عند ربهم.. ابتسم الملاك الحارس وقال: الشهداء هنا في نعيم مقيم والحمد لله.. لكننى كثيرا ما أتساءل.. لماذا يصعد إلينا هذا العدد الكبير من الشهداء المصريين بالرغم من أن مصر لم تحارب منذ أربعين عاما.. قال مايكل مسعد: - هذا السؤال يجب أن يوجه إلى حسني مبارك والمجلس العسكري. ضحكوا جميعا ثم قال الشيخ عماد: - هل تعلم يا قداسة البابا أن المصريين جميعا، مسلمين وأقباطا، قد حزنوا لوفاتك. لقد رأيت الكاثدرائية هذا المساء. إن منظرها مهيب حقا. سأله البابا: - هل تشاهدون التلفزيون هنا؟! ضحك الملاك الحارس وقال: - ضيوفنا هنا لا يحتاجون إلى تلفزيون... ما إن يفكروا في أي شيء حتى تستحضره أذهانهم بوضوح. لو فكرت في الكاثدرائية الآن فسوف تراها في ذهنك. أغمض البابا عينيه وفكر في الكاثدرائية فرأى عشرات الألوف من المصريين جاؤوا ليلقوا نظرة أخيرة على جثمانه.فتح عينيه وابتسم وقال: - بارك الله فيهم جميعا. مصر كانت دائما بلدا واحدا وشعبا واحدا.. هنا قال علاء بحماس: - يا قداسة البابا، نحن نحمد الله كثيرا على النعيم الذى تعيش فيه. لكننا نتابع ما يحدث في مصر ونحس بحزن. إن الثورة التي قدمنا حياتنا من أجلها يتم إجهاضها.. هز الشيخ عماد رأسه موافقا، ثم تنهد وقال: - لقد مر على انتخاب مجلس الشعب ما يقرب من شهرين . الواضح أن أعضاءه عاجزون عن فعل أي شيء الا بموافقة المجلس العسكري.. إذا استمر الأمر على هذا الحال، فإن مجلس الشعب سيكون مثل برلمان مبارك، مجرد مكلمة ووسيلة لتخدير الرأي العام وأداة في يد السلطة المستبدة. قال الدكتور علاء متهكما: - ماذا تتوقع من مجلس الشعب إذا كان رئيسه يتحرك في سيارة بي إم دبليو مصفحة، بينما نصف المصريين يعيشون في العشوائيات تحت خط الفقر؟! ظل البابا شنوده يستمع إليهم، لكنه لم يتكلم. اندفع مينا دانيال قائلا: - اسمح لي يا سيدنا .. لقد تعلمنا على يديك الصراحة والشجاعة. هل تقبل أن يناقشك واحد من أبنائك؟! - تفضل يا ولدي. نهض الشيخ عماد والدكتور علاء لينصرفا، لكن البابا استبقاهم قائلا: - أنتما مسلمان، لكننى أبوكما مثلما أنا أبوهما.. ليس لدي ما أخفيه عنكما. تكلم يا مينا، أنا أنصت إليك. - لقد مت ومات وأصيب معي شباب كثيرون في مذبحة ماسبيرو. ثم فوجئت بأعضاء المجلس العسكري، المسؤولين عن المذبحة، يجيئون للتعزية في الكنيسة.. لماذا استقبلتهم يا سيدنا؟! - يا مينا، يا ولدي، الكنيسة مفتوحة لكل إنسان لأنها بيت الرب.. كما أن المسيح قد علمنا المحبة والتسامح. - يا سيدنا، إن المجلس العسكري هو المسؤول السياسي الأول في الفترة الانتقالية. لقد مات أكثر من ثلاثمائة شهيد في مذابح متتالية.. ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء وبورسعيد .. لماذا لم تأخذ الكنيسة موقفا واضحا في مطالبة المجلس العسكري بتقديم المسؤولين عن هذه المذابح إلى المحاكمة؟! صمت البابا وبدا عليه كأنما ينتقي كلماته، ثم قال ببطء: يا مينا، ياولدي، عندما كنت في سنك كنت متحمسا مثلك، وربما أكثر منك.. لكننى لما تقدمت في السن، تعلمت خطورة أن يتخذ الإنسان أي قرار وهو غاضب.. هل تظن أنني لم أحزن من أجل أبنائي الذين ماتوا في كل هذه المذابح؟! هل تحسب أنني لم أغضب عندما رأيت بنات مصر يسحلن في الشوارع بواسطة جنود مصريين؟! أقسم بالمسيح أن مشهد البنت المسحولة التي عروها من ثيابها ودهسوها بالأقدام لا يفارق ذهني حتى الآن. - لكن قداستك لم تتكلم لتطالب بمحاسبة المسؤولين عن كل هذه الجرائم. - أحيانا، يكون الصمت أبلغ من الكلام. - لقد وعدتني ألا تغضب مني يا سيدنا. - تكلم يا مينا. - يا سيدنا، لماذا كنت دائما تشكر المخلوع مبارك وتثني عليه وهو ظالم وفاسد؟! لماذا أشدت دائما بابنه جمال مبارك الذي كان يريد أن يرث مصر وكأنها عزبة أبيه؟! ساد بعض التوتر وابتسم الملاك الحارس وقال: - أظن من المناسب أن نترك قداسة البابا الآن ليستريح. رفع البابا يده محتجا وقال: - لست متعبا. اسمع يا مينا.. أنت مسؤول عن نفسك فقط. أنت اخترت الثورة ودفعت الثمن حياتك وأصبحت شهيدا.. أنا قراري لا يخصني وحدي. كل موقف أتخذه سيؤثر على ملايين الأقباط والمسلمين وعلى مصر كلها. كثيرا ما أضطر إلى اتخاذ مواقف لا تعجبك، لكنها ضرورية لا مفر منها. هنا اندفع مينا قائلا: - أفهم من ذلك، يا سيدنا، أن قداستك تؤيد الثورة. طبعا، يا ولدي. عندما يطالب الشعب بالحرية والعدل لا بد للكنيسة أن تسانده. ساد الصمت وضحك البابا وقال: - تكلم يا مينا، أرى في عينيك السؤال.. تريد أن تسألني لماذا لم أعلن تأييدي للثورة من البداية.. الإجابة، كما قلت لك، أنني أحسب كل كلمة أقولها.. أتظنني غافلا عن اشتراك آلاف الأقباط في الثورة.. أتظنني لم أعرف بعشرات الكهنة الذين انضموا إلى الثورة وأقاموا القداس في كل ميادين مصر.. كنت أعلم وكنت أصلي من أجلكم.. هنا، قال الدكتور علاء: - اسمح لي يا قداسة البابا.. لقد تحالف الإخوان مع العسكر وصنعوا مجلس شعب شكليا عاجزا. وهم الآن، بالمخالفة للإعلان الدستوري، قد سيطروا على نصف اللجنة التأسيسية وسوف يصنعون دستورا على مقاس الإخوان والمجلس العسكري.. بعد ذلك، سوف يأتون بالرئيس الذي يطيع المجلس العسكري.. كنت أتمنى من قداستك أن تتكلم بصراحة عن كل ذلك.. ضحك البابا وقال: - فات الأوان. لو تكلمت الآن فلن يسمعني أحد هناك. ضحكوا ثم قال البابا بجدية: - كنت أتمنى أن تعيد الثورة إلى المصريين كرامتهم وتحفظ حقهم في الحياة.. لكنني وجدت الشهداء يتساقطون بعد الثورة كما تساقطوا قبلها. أرجوكم تفاءلوا ولا تستسلموا للإحباط. حق الشهداء لن يضيع.. سوف تنتصر الثورة وسوف يحاكم المسؤولون عن كل هذه الجرائم. إن التاريخ يعلمنا أن الثورات لا تهزم أبدا. قد تتعطل وقد تضل الطريق لكنها حتما سوف تنتصر في النهاية. ساد الصمت وقال مينا بحرج: - سامحنا يا سيدنا إذا كنا تجاوزنا في حديثنا مع قداستك. ابتسم البابا، وقال بهدوء: - لا يمكن أن أغضب منكم، يعلم الله كم أحبكم.. أشكر الرب لأنني سأظل معكم هنا، سأذكركم يوما ما بهذا الحوار.. قريبا سوف نرى من هنا مصر وهي تبدأ المستقبل العظيم الذي تستحقه. قام الشهداء الأربعة لتحية البابا.. صافحه الدكتور علاء والشيخ عماد بينما انحنى مينا ومايكل وقبلا يده. وأخيرا، قال الشيخ عماد: - إن كلماتك يا قداسة البابا قد أراحت نفوسنا. شكرا جزيلا. استدار الشهداء لينصرفوا بينما ظل البابا يتابعهم بنظره وقد بدا على وجهه الارتياح. الديمقراطية هي الحل.