إن كان مفهوم الأمن القومي، بكل أدبياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، قد تم تداوله منذ الحرب العالمية الثانية، بحيث أصبحت للكثير من دول العالم مجالس أمنها القومي، فإن المغرب لم يقرر إنشاء هذا المجلس إلا مؤخرا بعد صدور الدستور الجديد؛ ومن هنا نتساءل: أي أمن قومي نريد؟ وأي استراتيجية علينا اتباعها للحفاظ على مصالح المغرب الداخلية والخارجية؟ وإن كان الأمن القومي، حسب تعبير وزير الدفاع الأمريكي الأسبق روبرت مكنمار في كتابة «جوهر الأمن»، «يعتبر هو التطور والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في ظل حماية مضمونة، وهو نابع من معرفة الدولة العميقة لمصادر التهديد لمختلف قدراتها وإمكانية مواجهتها لإعطاء فرصة حقيقية لتنمية حقيقية»، فصياغته ترتكز على أربع ركائز هامة: 1 - إدراك التهديدات الخارجية والداخلية؛ 2 - رسم استراتيجية لتنمية قوى الدولة في جميع المجالات؛ 3 - توفير القدرة على مواجهة جميع التهديدات المختلفة، النظرية منها والواقعية؛ 4 - إعداد سيناريوهات مختلفة لمواجهة هذه التهديدات في نطاق المجال الحيوي لدولتنا. وسوف نركز في هذا المقال على الجانب الجيواستراتيجي والعسكري المحيط بالمملكة الشريفة دون أن نغرق في التفاصيل لضيق المجال، وستكون انطلاقتنا من مقولة أحد الاستراتيجيين الكبار في العالم، حين قال: «إذا أردت أن تفهم موقعك الحيوي وبعدك الاستراتيجي فضع خارطة العالم أمامك». ولهذا، سوف نتجه شمالا نحو إسبانيا، ذلك البلد الذي تعتبر استراتيجيته تجاه المغرب مركبة ومعقدة جدا، فعقيدتها العسكرية تعتبر المغرب عدوا تاريخيا منذ الفتوحات الإسلامية، ومازلت إلى حد الآن تحتل جزءا من أراضينا، وفي نفس الوقت فعقيدتها الاقتصادية تعتبر المغرب حليفا استراتيجيا بحكم أنها ثاني شريك اقتصادي له بعد فرنسا. وإن أردنا أن نقارن موازين القوة فهي لا تميل لصالحنا في الوقت الراهن لأسباب موضوعية وذاتية لا مجال لذكرها الآن، وإن أنجع سياسة يمكن للمغرب القيام بها تجاه الجارة الشمالية هي اتباع نصائح عبقري الجغرافية السياسية ومفكر الصين العظيم سان تسو sun-tsu الذي تتبع هذه الدولة العظمى مجمل حكمه في سياستها الخارجية، ونبدأ بالحكمة الأولى «بالإمكان إخضاع وهزيمة العدو دون خوض معركة أو حرب معه». وهنا، يجب علينا الإشادة بحكمة الملك محمد السادس الذي يفضل الاهتمام بالأقاليم الشمالية وتنميتها لتصبح منافسة لجنوب إسبانيا، مما يؤدي، إن عاجلا أم آجلا، إلى اختناق مدينتي «سبته» و«مليلية» اقتصاديا، حيث تصبح عبئا على إسبانيا بدل أن تكون موردا ماليا وتجاريا أضخم لها. وعند أي مفاوضات مباشرة سيكون للجانب الاقتصادي الكلمة الفصل في نتائج هذه الأخيرة، كما أن إكمال مشروع الميناء العسكري بالقصر الصغير سيعطي إشارة قوية إلى أن البحر الأبيض المتوسط ومضيق البوغاز لا تتحكم فيه بريطانيا وإسبانيا فقط، ولهذا إذا ركزنا على تنمية هذه الأقاليم الشمالية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياحية واستطعنا أن نجعلها منافسا قويا للأقاليم الجنوبية لإسبانيا، واستطعنا كذلك أن نجذب جزءا من الاستثمارات التي تذهب إلى هاته الأقاليم، وجعلنا من الميناء المتوسطي بطنجة أكبر ميناء في الحوض المتوسطي، فإننا نكون قد استطعنا الانتصار على إسبانيا دون خوض معركة قد نكون الخاسرين فيها عسكريا، وقد نستطيع بدون مواجهة دامية استرجاع مدينتينا السليبتين. ولنتجه جنوبا نحو موريتانيا، فهذا البلد الشقيق كان عليه أن يكون بالنسبة إلينا كالمكسيك بالنسبة إلى الولاياتالمتحدة، أي حديقتنا الخلفية بالمعنى الجيد لهذا المفهوم بالطبع. فهذا البلد غني بالموارد المعدنية النفيسة وبثرواته السمكية وبمساحته الشاسعة التي تعتبر عمقا استراتيجيا لنا، وهنا يجب علينا الأخذ بالحكمة الثانية لسان تسو: «الرابحون دوما هم الذين يتوفرون على المعلومات الأكثر والأدق». فهل نعرف كيف تستخرج هذه الثروات المعدنية ومن يستغلها وإلى أين يتم تصديرها؟ وهل بالإمكان أن تمر هذه الثروات عبر موانئنا المتوسطية من خلال سكك حديدية متخصصة في هذا الأمر؟ هل طلبة موريتانيا يفضلون الدراسة في المغرب أم في دول أخرى؟ هل ثقافتنا وحضارتنا جاذبة لهم؟ هل سوق الشغل عندهم واحتياجاتهم إلى الكفاءات والأطر تتم تلبيتها من طرف المغرب؟ كلها أسئلة وأخرى كثيرة يجب طرحها والتعامل معها. ولهذا، إذا أردنا أن تكون موريتانيا صمام أمان لحدودنا الجنوبية فعلينا أن نولي هذا البلد المزيد من الاهتمام عن طريق إنشاء مصانع حدودية معه تشبه مصانع «الماكيلادوراس» التي توجد بين الولاياتالمتحدةالأمريكية والمكسيك، ويمكن أن تكون هذه المصانع مخصصة لتصنيع الحديد والصلب والمعادن النادرة التي يحتاجها العالم، وهذا على سبيل المثال لا الحصر. ولنتجه شرقا نحو الجزائر ومعها مشكل البوليساريو، ذلك الشوك في الحلق، والحديث عنها طويل وعميق يستحق مقالا أو كتابا لوحده، ولهذا سأتطرق للحكمة الثالثة لسان تسو، ونترك نقاشها إلى مناسبة أخرى: «الذي لا يريد أن يضع السلاح أبدا سوف يموت مهلوكا بهذا السلاح». ولنتجه غربا نحو المحيط الأطلسي العظيم، فالمغرب يتوفر على 3400 كلم من السواحل، وأي خبير استراتيجي سيطرح هذا السؤال: هل المغرب قوة بحرية كبيرة، وهل يمكن أن نعتبره من دول «Heartland»، أي دول قارة/محيط، حسب تقسيم ماك كندر، أو هو من دول «Rim land»، أي الدول القارية فقط، وهنا وجب علينا، كأمة تحترم نفسها، أن نفهم أنه بدون قوة بحرية وأسطول قادر على حماية شواطئنا وعلى الصيد في أعالي البحار وضمان حرية الملاحة والقضاء على الهجرة السرية وتجارة المخدرات، فلن تقوم لنا قائمة وأي متتبع للصراع البحري في بحر الصين والمحيط الهادئ بين أمريكا والصين، والذي سيحدد مستقبل العالم فيما بعد، يعرف أن المحيطات والبحار سيكون لها دور كبير في تشكيل هذا العالم من حيث الاعتماد عليها عندما تندر المياه والطاقات والغذاء، فالبحار والمحيطات ستصبح مصدر كل هذا المنتوج الحيوي لاستمرار الحياة فوق الأرض. من هذا وذاك، يتضح أن مسألة الأمن القومي هي معقدة ومركبة وعليها يبني مستقبل شعب وأرض لأجيال عديدة، لهذا يجب أن تخضع لنقاش عمومي واسع بين مختلف الفاعلين والخبراء من أجل صياغة استراتيجية واضحة المعالم والأهداف تنطلق بالمغرب إلى مصاف الدول المتقدمة في ظل الأمن والاستقرار.