قادت الصدف نجية حضري إلى مخفر الشرطة لتفك لغز تصريح غامض لأبكمٍ عجز المحققون عن فهم إفاداته في ملف يتعلق بالضرب والجرح، وقد استنجد البوليس بنجية لأنها ملمة بلغة الإشارة وبالاحتياجات الخاصة بفئة الصم والبكم، من خلال اشتغالها في مؤسسة تعنى برعاية الصم والبكم في شارع الزيراوي بالدارالبيضاء، وهي المؤسسة التي التحقت بها منذ 1982. دعيت نجية إلى مساعدة الشرطة القضائية وتسهيل مأمورية المحققين بفضل تواصلها مع جان ينتمي إلى فئة الصم والبكم، فقررت أن تكون ناطقة رسمية باسم هؤلاء المعاقين الذين غالبا ما تؤول تصريحاتهم بشكل خاطئ أو يكتفي المحققون بصرف النظر عن إفاداتهم والاكتفاء بما حملته محاضر الإدانة. ومع مرور الأيام، أصبحت حضري عنصرا أساسيا في جلسات الاستنطاق التي تهم الصم والبكم، سواء كانوا جناة أو مجنيا عليهم، فنالت «شهادة خبيرة قضائية محلفة لدى محاكم المملكة مختصة في لغة الإشارات»، بل إنها تقوم، في ظل غياب محام يدافع عن هذه الفئة، بهذا الدور وتساعد المحامين العاديين على فهم لغة الإشارات. تتذكر نجية حضري بداية علاقتها ب«الترجمة الفورية» للغة الصم والبكم أمام المحققين، وتقول ل«المساء»: «كانت أول علاقة لي بالمحاكم سنة 1996، حين استعانت بي الشرطة القضائية في الدارالبيضاء لحل لغز تصريح مبهم لأبكم متهم بالضرب والجرح، والملف الأول أمام القضاء كان مع القاضي الصقلي، قبل أن أقوم بمهام مماثلة حتى خارج الدارالبيضاء في سطات -مثلا- مع الأستاذ حسيني في قضية هتك عرض قاصر بالعنف من طرف أبكم، وفي سلا حين عجز القضاء عن فك شفرة تصريحات بالإشارة لفتاة صماء تم اغتصابها بشكل جماعي من طرف أجانب، اعتقادا منهم أن إعاقتها ستحول دون كشف الحقيقة؛ وتواصل حضوري في القضايا المماثلة بكل من الجديدة وبرشيد والمحمدية. ومع مرور الأيام، أصبحت عنصرا مساعدا للقضاء المغربي في كشفه عن الحقائق، وهذه المهنة هي نقطة تحول كبرى في حياتي لأنني أشعر بأنني محامية أيضا عن هذه الفئة». تقول نجية إنها تتلقى تعويضا عن مهامها، وإنها فخورة بعملها الذي وصفته ب«الإنساني»، مشيرة إلى وجود جرائم عديدة مرتكبة من طرف الصم والبكم أو تعرض لها هؤلاء المعاقون، وظلت لغة الإشارات عائقا يحول دون فك شفرتها، وأضافت أن الجرائم المرتكبة من طرف هذه الفئة لا تختلف كثيرا عن جرائم الأشخاص العاديين، مبرزة أن أغلبها له علاقة بالضرب والجرح، وأضافت أن أغرب الملفات التي لازالت راسخة في ذهنها هي قضية متهم ادعى أنه أبكم وأصم في محاولة للإفلات من العقاب، «كان يمتهن السرقة بالعنف، وكان كلما سقط في يد الشرطة ادعى انتماءه إلى فئة الصم والبكم ولجأ إلى كل السبل الممكنة للتحايل على المحققين، خاصة وأنه كان يضبط بعض الإشارات، إلا أن مقابلة معه كشفت حقيقته فأدين باقتراف فعل السرقة وقضي في حقه من أجل ذلك بستة أشهر حبسا نافذا». وهناك بالمقابل صم وبكم أدينوا بارتكاب أفعال إجرامية بسبب سوء فهم للإشارات، ومنهم من أنهى عقوبته الحبسية وطالب برد الاعتبار إليه، وكان له ما أراد «بعد أن تبين للمحكمة سلامة موقفه من خلال يسر في التواصل معه». وفي غياب أرقام رسمية حديثة حول عدد الصم والبكم في المغرب وإشكالية التواصل بين هذه الفئة والقضاة، يخشى الأصم من أن يجد نفسه يوما في قفص الاتهام يجيب عن أسئلة القاضي دون أن يفهم مغزاها، أو يصرخ في دواخله دون أن تصل صرخته إلى من بيده قرار النطق بالحكم، ولاسيما أن القضاء المغربي لازال يعاني من غياب محام يفهم لغة الإشارة، لذا يفضل كثير من حاملي هذه الإعاقة عدم تقديم الشكاوى إلى الشرطة أو القضاء، خاصة وأنهم يجدون صعوبة في التواصل مع الناس العاديين في أمور بسيطة «فبالأحرى أن يتفاهموا مع المحققين في أمور قانونية». وترى نجية حضري أن ارتفاع جرائم الضرب والجرح في صفوف الصم والبكم ناتج عن ملاقاتهم عسرا في التواصل مع المحيط الخارجي وعن عصبيتهم الزائدة جراء هذا الأمر، لأن الصم «لا يتم التعامل معهم في الشارع العام كمواطنين مكتملي المواطنة، لهذا تجد مقاهي خاصة بهم أو منتديات تجمعهم بعيدا عن الأسوياء». ومن فرط تمرسها بهذه المهنة، أصبحت نجية -كما تبين لنا- تتحدث بلغة الإشارات حتى في تواصلها مع الأشخاص العاديين.