هذا الأسبوع أطفأ عباس الفاسي شمعته الأولى في الوزارة الأولى. لقد أكمل زعيم الاستقلاليين، الذين حرموا لعقود من «شرف» الجلوس على كرسي الوزارة الأولى، سنة كاملة في رئاسة الحكومة، وإن كانت رئاسته أدبية وشكلية وفق أحكام الرياح التي حملته إلى موقع المسؤولية، وهي رياح لا تتجه حسب ما تشتهيه أشرعة أي سفينة، فالرجل يجر وراءه أغلبية هشة وشعبية متدنية ومطالب كثيرة... وسط كل هذا استطاع صهر علال الفاسي أن يحافظ على مفاتيح الوزارة الأولى بين يديه، لكن بأي ثمن؟ منذ الأشهر الأولى لبداية عمله في الوزارة، وجد أمامه علامات قف كثيرة وفي عدد من مفترقات الطرق. فعندما أصدر مرسوما بضم وكالات التنمية إلى وزارة السكن والتعمير التي يديرها توفيق احجيرة، صدر بلاغ صارم من الديوان الملكي يلغي مرسوم الوزير الأول بطريقة قاسية، وتم لجم عباس الفاسي الذي تراجع إلى الوراء، وعندما سألتُه في لقاء صحافي في بيته عن شعوره إزاء هذه الحادثة؟ ولماذا لم يلغ المرسوم وهو معروض على المجلس الوزاري وألغي ببلاغ ملكي قرئ في التلفزة على رؤوس الأشهاد؟ قال عباس بكل بساطة: «لقد أخطأت وصاحب الجلالة صحح لي خطئي، وأنا فخور بذلك...». قبل هذه الحادثة تم نزع ملف الاستثمارات الكبيرة من يد عباس وتم تسليمه إلى وزير آخر... عباس الفاسي كان أمامه نموذجان حملا حقيبة الوزارة الأولى قبله، لم يستطع تقليد أي منهما... كان أمامه نموذج عبد الرحمان اليوسفي، الذي يحمل له الكثير من «الكره» ولكن في نفس الوقت يتطلع إلى اكتساب شيء من سمعته السياسية كوزير أول جاء من المعارضة إلى الحكومة، ومن الصراع إلى التوافق مع القصر. عباس لا يملك «كاريزما» اليوسفي ولا تاريخه، فقد أمضى الفاسي ثلتي عمره السياسي في الوزارات والسفارات، ولما جاء عليه الدور لقيادة حزب الاستقلال كان مجبرا على تقبيل يد امحمد بوستة حتى يجلس مكانه، هذه الصورة التي يكرهها عباس اليوم مازالت تنشر في الصحافة المستقلة ومعها الكثير من التعليقات السلبية حول «ملف النجاة» وحول «سيرة وزير الدولة مع حقيبة فارغة». النموذج الثاني الذي كان أمام عباس هو نموذج التكنوقراطي إدريس جطو، الذي لا يكن له عباس كثير مودة، والذي يكره فيه تكنوقراطيته وتلاعبه بحزب الاستقلال، حيث فرض على حزب علال الفاسي وزراء ليس بينهم وبين الحزب خيوط عنكبوت. لكن في نفس الوقت عباس يتطلع إلى اكتساب معرفة جطو بالملفات الاقتصادية والاجتماعية وديناميته في الحركة والمبادرة... خلال سنة، لم يحسم عباس في أي النموذجين سيسير على نهجه. نموذج اليوسفي الذي كان يتحرك بكاريزما سياسية مع ضعف الإلمام بالملفات والمشاكل والقضايا الاقتصادية، أو نموذج جطو بخبرته الاقتصادية وفقر بضاعته من السياسة. ربما يتطلع عباس إلى خلق نموذج خاص به في إدارة الوزارة الأولى، وهو نموذج «تأمين» البقاء على الكرسي والاستعداد للتفاوض والتنازل عن الباقي. المشكل في هذا النوع من التأمين أن «بوليصته» مرتفعة الثمن والفاتورة قد تصل إلى موت السياسة في عقل عباس، حتى وإن كان قلبه مازال ينبض.