إن فشلت المصالحة في القاهرة فإن القضية الفلسطينية ستعود بقضها وقضيضها إلى الأنظمة العربية لتقرر مصير ما سيتبقى من المشروع الوطني الفلسطيني، وهو المشروع الذي تأسس بداية بقرار قمة عربية عام 1964، وإن كنا نتمنى أن يكون العود أحمد، إلا أن هذه العودة تأتي في ظل واقع عربي هو الأسوأ منذ عقود، والسؤال هو: هل انتهى زمن القرار الوطني الفلسطيني المستقل والمشروع الوطني الفلسطيني؟ وهل سينجح المتحاورون بالقاهرة على إنجاز مصالحة حقيقية تقطع الطريق على عودة الوصاية العربية؟ وهل المصالحة الفلسطينية ممكنة بدون مصالحة عربية عربية أو توافق عربي حول الشأن الفلسطيني؟ بداية وقبل أن نُحمل الأطراف الخارجية كل المسؤولية عما آلت إليه أحوالنا أو ستؤول إليه إن فشلت حوارات القاهرة، يجب التأكيد أننا كفلسطينيين نتحمل جزءا كبيرا من المسؤولية. كل ما جرى أخيرا حلقات من مسلسل أو مخطط أريد له أن يكون بديلا عن مسلسل التسوية ومشروع السلام الفلسطيني الساعي إلى قيام دولة في الضفة وغزة. وحيث إن هذا المخطط قطع خطوات كبيرة على أرض الواقع، حيث الفصل لم يعد جغرافيا فقط بل وسياسيا ونفسيا وثقافيا وأصبح له امتدادات وعلاقات وتحالفات خارجية تغذيه وتدعمه ماليا ودبلوماسيا... فإن المصالحة تصبح أكثر صعوبة ولكن أكثر إلحاحا وضرورة، فماذا يمكن للعرب أن يقدموا للفلسطينيين ضمن هذا الواقع؟ عندما اتخذ العرب قرارا في قمة الرباط 1974 باعتبار منظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا للفلسطينيين، فهذا القرار الذي اعتبره الفلسطينيون نصرا كبيرا كان يعني في نفس الوقت إسقاطا للمسؤولية عن العرب في ما يخص الشأن الفلسطيني وترك أمر القضية لأهلها ليقرروا فيها كما يريدون، وبالفعل التزم القادة العرب بتعهدهم، ولم يتدخلوا في الشأن الفلسطيني إلا كمقدم مشورة ونصح أو مقدم مساعدات مالية أو حاجب لها حسب طبيعة العلاقة التي تربط كل فصيل فلسطيني بكل نظام عربي، أو تتدخل بعض الأنظمة بالشأن الفلسطيني لتوظيف القضية الفلسطينية لخدمة أجندتها الخاصة فقط. لم يتدخل العرب لنصرة الفلسطينيين أثناء حرب أيلول في الأردن عام 1970، ولم يتدخلوا أثناء الحرب الأهلية اللبنانية عام 1976 التي كان الفلسطينيون طرفا فيها، وعندما تدخلت قوات سورية تحت عنوان قواة الردع العربية انحازت إلى الطرف المسيحي على حساب تحالف القوى الوطنية اللبنانية والثورة الفلسطينية، ولم يتدخل العرب لنصرة الفلسطينيين أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان صيف 1982، وتركوا المقاومة الفلسطينية تواجه مصيرها، وهو ما حدث أثناء مجازر صبرا وشاتيلا التي ارتكبت بأياد عربية وليست إسرائيلية، أيضا لم يتدخلوا أثناء الانتفاضة الأولى ثم الانتفاضة الثانية ولا أثناء اجتياح الضفة الغربية ومحاصرة الرئيس أبو عمار رئيس منظمة التحرير الفلسطينية العضو في جامعة الدول العربية، ولم يتدخلوا عندما فرضت إسرائيل الحصار على الشعب الفلسطيني بعد انتخابات يناير 2006 ولم يتدخلوا لرفع الحصار عن غزة. هذه المواقف وإن كانت تعبر في جانب منها عن تخاذل وتواطؤ، فإنها في جانب آخر تعبر عن عجز وفقدان الحيلة، حيث انشغلت الدول العربية بهمومها ومشاكلها السياسية والاقتصادية والتي غالبا ما خلقتها الدول الامبريالية وخصوصا أمريكا، حتى لا تلتفت هذه الدول إلى الشؤون القومية والمصيرية. واليوم وبعد مؤشرات بأن منظمة التحرير التي أوجدها العرب عام 1964 وتركوها لمصيرها عام 1974، أصبحت عاجزة على القيام بمهامها لا في تحرير فلسطين ولا في إنجاز المشروع الوطني المؤسس على قرارات الشرعية الدولية ولا في توحيد الشعب، وبعد أن أصبح واضحا أن الذين ركبوا موجة المقاومة متأخرين وصلوا إلى طريق مسدود، وبعد أن أصبح واضحا أن هذا العجز لا يعود فقط إلى جبروت إسرائيل وعدم رغبتها في السلام، بل يرجع أيضا إلى الفلسطينيين أنفسهم، حيث تم حرف مشروع السلام الفلسطيني عن مساره وحيث رفضت حركة حماس مرجعية المنظمة وتتصرف كبديل للمنظمة، ويرجع أيضا إلى انقلاب السلطة التي أسسها اتفاق أوسلو على منظمة التحرير نفسها ثم انقلاب حماس على المنظمة والسلطة ومرجعياتها، نقول بعد هذا العجز والمأزق المركب اتجه الفلسطينيون بأنظارهم مجددا إلى العرب ليساعدوهم على الخروج من المأزق! منذ تفجر الأزمة بعد انتخابات يناير 2006 جرت عدة محاولات عربية لرأب الصدع وكانت أبرز هذه المحاولات ما جرى في مكة، ولكن تفاهمات مكة فشلت في حل الخلاف بل زادت الأمور تعقيدا بعد انهيار ما كان يفترض أنها حكومة وحدة وطنية، وبعد انقلاب يونيو 2007 تجددت المساعي العربية وكانت المبادرة السودانية ثم المبادرة اليمنية التي مازالت تراوح مكانها وبعدها انتقل ملف الوساطة والحوار إلى مصر عندما شعرت بأنها معنية أكثر من غيرها بالملف الفلسطيني بسبب معبر رفح وقضية شاليط وخصوصية العلاقة بين قطاع غزة ومصر، وتأثير وجود حزب حاكم في قطاع غزة يقول إنه امتداد لجماعة الإخوان المسلمين، ونعتقد أن مصر استحثت جامعة الدول العربية على التدخل في الأمر عندما وجدت أن تداعيات الخلافات الفلسطينية الداخلية ستتجاوز كونها خلافات سياسية حول السلطة، فمع وجود حركة حماس الإسلامية على رأس حكومة عزة سيكون للخلافات الفلسطينية الداخلية تداعيات تهدد وجود منظمة التحرير العضو بجامعة الدول العربية وتهدد المشروع الوطني الفلسطيني، وهو المشروع الذي أسسته أو ساعدت على تأسيسه جامعة الدول العربية، وسيكون له تداعيات استراتيجية على الأمن القومي المصري وعلى النظام والأمن الإقليمي العربي. من هنا يمكن فهم التصريحات الحادة لعمر موسى، الأمين العام لجامعة الدول العربية، وخصوصا تصريحه يوم السابع من أكتوبر الجاري حيث قال إن الجامعة ستتخذ قرارات بالشأن الفلسطيني وستفرضها على الأطراف الفلسطينية، مثل هكذا تصريحات حادة لم تصدر عن الجامعة العربية بالنسبة إلى الأزمة العراقية ولا بالنسبة إلى الأزمة اللبنانية. ما كنا نأمل أو نرغب في أن تعود القضية الفلسطينية مجددا إلى جامعة الدول العربية أو إلى الأنظمة العربية، ونحن نعلم الحال الرسمي العربي وحال جامعة الدول العربية وتجاربنا مع الأنظمة العربية كما أشرنا كانت مؤلمة، ولكن للأسف فإن فشل الأطراف الفلسطينية في حل المشاكل الداخلية هو الذي يجعل التدخل العربي هذه المرة مفهوما ومقبولا من قطاع كبير من الشعب الفلسطيني، أن تحاول الجامعة العربية حل الخلافات الفلسطينية ولو بوجود ما لقوات عربية أفضل من أن تصبح غزة مرتعا لجماعات إسلامية من كل حدب وصوب وساحة لفتنة قادمة سيكون حال غزة اليوم نعيما مقارنة بها، وأفضل من تدخل دولي وأفضل من أن تستمر إسرائيل في توظيف الحالة الانقسامية الفلسطينية للتهرب مما عليها من استحقاقات بمقتضى الشرعية الدولية والاتفاقات الموقعة وبطبيعة الحال أفضل من استمرار عملية الفصل والقطيعة بين الضفة وغزة. ندرك جيدا بأن التدخل العربي سواء من خلال إرسال قوات أو مشرفين ومراقبين يحتاج إلى مبادرة عربية أو توافق عربي هو مُفتَقد حتى الآن، كما أن إرسال قوات عربية ليس قرارا عربيا أو فلسطينيا خالصا، بل سيكون قرارا دوليا أو عربيا إسرائيليا مشتركا، فليس من السهولة أن تقبل إسرائيل تواجدا عربيا في القطاع أو الضفة، إلا إذا خدم ذلك مصالحها ومخططاتها. ولكن التدخل العربي قد يأخذ أشكالا أخرى مثل الوصاية بالتنسيق مع إسرائيل، وقد يكون الحديث عن إرسال قوات عربية غطاء لشكل جديد من الوصاية، حيث ستكون القوات العربية في غزة غالبيتها من مصر، وإذا ما تقرر إرسال قوات عربية لما تبقى من الضفة ستكون قوات أردنية، وقد سمعنا قبل أيام بموافقة إسرائيل على دخول قوات بدر من الأردن للضفة، وهذه القوات من حيث الانتماء الأمني والعسكري هي أردنية أكثر مما هي فلسطينية، وجلبها للضفة في هذا الوقت بالذات يثير كثيرا من التساؤلات، لا يعني هذا أننا نريد هذا التدخل العربي بل نأمل أن تنجح حوارات القاهرة في تحقيق مصالحة فلسطينية حقيقية، وبالتالي لا يكون هناك داع لقوات عربية وربما يقتصر الأمر على وجود مراقبين ومدربين يشرفون على إعادة تنظيم وتأهيل الأجهزة الأمنية ومنح حركة حماس ضمانات لمنع أي عمليات انتقامية وثأرية. إن المصالحة التي ستقطع الطريق على الوصاية العربية وتحول دون فرض الحصار أو إعاقة إسرائيل للمصالحة، هي المؤسسَة على الإحساس بالمسؤولية الوطنية والإرادة الجادة في إنجاح المشروع الوطني الفلسطيني، وليست المصالحة الشكلية المتأتية نتيجة الإحراج أو رفع العتب أو لكسب الوقت... المصالحة الحقيقية هي التي تنتج عن حوار جاد حول كل القضايا الخلافية الاستراتيجية: الموقف من التسوية والمفاوضات، مفهوم المقاومة، إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية لتستوعب الجميع –الصفة التمثيلية لمنظمة التحرير بواقعها الراهن لم تعد تقنع كثيرا من الفلسطينيين- الاعتراف بقرارات الشرعية الدولية والشرعية العربية، حكومة توافق وطني، إعادة بناء الأجهزة الأمنية، الانتخابات التشريعية والرئاسية، وحتى قضية شاليط يجب أن تكون جزءا من صفقة المصالحة بل قد تكون أولى القضايا التي يجب حلها لأن عدم إغلاق هذا الملف سيعطي إسرائيل ذريعة لإفشال أي حكومة قادمة. في حالة توفر إرادة حقيقية بالمصالحة يمكن حل كل قضايا الخلاف تدريجيا بعد الاتفاق عليها من حيث المبدأ. إن ما نخشاه هو تكرار تجربة مصالحة مكة، بمعنى الاتفاق على حكومة توافق وطني بدون نية حقيقية للمصالحة، وهذه الحكومة لن تعمر طويلا وبعدها سيكون الانهيار الشامل، لأنه لا سمح الله إن فشلت المصالحة القادمة أو فشلت حكومة التوافق الوطني الناتجة عنها فلن تقوم قائمة للمشروع الوطني لسنوات طوال، حيث سيصبح الفصل أمرا واقعا وستتعامل الدول العربية والعالم مع هذا الواقع الفلسطيني الجديد، ولن تفكر أية دولة عربية بإعادة الكرة مرة أخرى لمصالحة الفلسطينيين مع بعضهم البعض وهم بطبيعة الحال لن يكونوا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم.