ظل أحمد الميداوي، رئيس المجلس الأعلى للحسابات، دائما، شرطيا بدون أصفاد، يدبج تقاريره السنوية ويكشف عن اختلالات المؤسسات العمومية التي تمول من جيوب دافعي الضرائب وصارت تقاريره «المخيفة» مناسبة سنوية يتوقف عندها المغاربة بغير قليل من الاندهاش.. لكن الأخطر في كل هذا اللغط الذي يثيره الميداوي هو أن هذه التقارير تبقى حبيسة الرفوف، تنبش فيه الصحافة بين الفينة الأخرى من دون أن تتحرك أجهزة الدولة للتحقيق في حجم المليارات المنهوبة، الأمر الذي جعل الكثير من المحللين يشككون في جدوى إنشاء هذا المجلس ما دام أن ملفات الفساد التي تنخر الإدارات والمؤسسات العمومية لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها، تارة بالتذرع بخدمة «المصالح العليا للبلاد» وتارة أخرى ب»تقليل حجم الاستثمارات في المغرب». بطبيعة الحال، كان الكل يدركون أن مثل هذه المبررات لا يمكن لها أن تسوغ، بأي حال من الأحوال، حجم الخروقات التي بدأت «رائحتها» تزكم أنوف المغاربة، بل وكان بعض المتتبعين يعرفون أن تحريك ملف متابعة بعض المتورطين سيجر وراءه شخصيات توصف ب»النافذة» إلى المحاكمة.. سارت الأمور على هذا المنوال لسنوات عديدة، تعددت تقارير الميداوي، زادت حيرة المغاربة من عجز الدولة عن حماية «أباطرة الفساد»، وكانت الحكومات المتعاقبة تحاول، بشكل محتشم، إثارة بعض الملفات وعرضها على القضاء، بيد أن جل محاولاتها كانت تصطدم بظاهرة معقدة يتشابك فيها المال بالسلطة. كان المغاربة يعرفون أن أصل الداء يتمثل في ضعف مؤسسة القضاء، التي عجزت، كل العجز، عن الاضطلاع بمهامها في متابعة المفسدين والمرتشين، ومن ثم فإن هذا العجز ولّد لدى بعض المتتبعين نوعا من خيبة الأمل، بل وكان لافتا أن «الصمت المريب» لهذه المؤسسة يخفي بين ثناياه قضايا بإمكانها أن تسقط شخصيات «كبيرة» تورطت بصيغة أو بأخرى في ملفات الفساد، رغم كل الخطابات الملكية الداعية إلى اضطلاعها بأدوارها كاملة. وفي هذا الصدد، كان من البديهي أن يخرج آلاف المغاربة، خاصة الشباب، ضمن حركة 20 فبراير، للاحتجاج على الفساد المستشري في المؤسسات العمومية، وكان لهذه الحركة الأثر الواضح في خلخلة بعض «المسلَّمات»، حيث عمدوا إلى رفع لافتات تشير إلى المسؤولين الحقيقيين عن وضعية «السكتة القلبية» التي يكاد المغرب يدخل في متاهاتها.. ولا يخفي المتتبعون في هذا المضمار أن الخطاب الملكي ل9 مارس من السنة الماضية كان قويا في مضامينه وحازما في التعامل مع القضايا المصيرية التي تهم المغاربة، خاصة في ما يتصل بربط المسؤولية بالمحاسبة، الذي رأى فيه البعض مبدأ جوهريا يؤطّر المرحلة الدستورية الجديدة. على ضوء ذلك، كان لافتا للنظر، في المدة القصيرة من مباشرة حكومة عبد الإله بنكيران مهامها، تحريك ملفات طواها النسيان لسنوات طويلة، في مقدمتها ملف المدير السابق لمكتب المطارات، عبد الحنين بنعلو، الذي وجد نفسه بغتة في قبضة الشرطة، بعد أن التمس الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف في الدارالبيضاء متابعته في حالة اعتقال، بعد اتهامه في»الاختلالات المالية» التي عرفها المكتب الوطني للمطارات في عهده. فاجأ اعتقال بنعلو على ذمة التحقيق الجميع، نظرا إلى أن «تقارير الميداوي» كانت قد أنجِزت منذ وقت طويل. ومع ذلك، فإن البعض اعتبروا أن هذه الخطوة تحسب في «ميزان حسنات» الحكومة الجديدة، التي يقودها الإسلاميون. ولئن كان البعض يعتبر أن تحريك ملفات في هذه الظرفية لا يعدو كونه «إعلانا للنوايا» من لدن الحكومة الجديدة التي تبتغي لنفسها مساندة شعبية تدعم أركانها في أول تجربة للإسلاميين في الحكم في مغرب ما بعد الاستقلال، فإن بعض المتتبعين يؤكدون أن الحكومة، ومعها سلطة القضاء، إذا تحركا بنفس الوتيرة، فإن ذلك سيؤدي إلى المزيد من الشفافية من التعاطي مع الملفات الكبيرة، لاسيما أن كل المؤشرات توحي بأن المغرب فتح آفاقا شاسعة لتكريس التغيير الديمقراطي. قبل اعتقال بنعلو، تابع المغاربة كيف أن مصطفى الرميد، وزير العدل والحريات العامة، حرص شخصيا على متابعة ما أصبح يعرف بملف «قاضي طنجة» بتهمة الارتشاء، في سابقة هزت الرأي العام المغربي، وتابع المغاربة كذلك، إحالة محافظ عين الشق في الدارالبيضاء على القضاء للتحقيق معه في قضايا تتعلق بالفساد. وفي ثنايا هذه المتابعات، تثوي رسائل مختلفة تريد حكومة عبد الإله بنكيران، ومعها الدولة، أن تبعث بها إلى»من يهمهم الأمر»، خاصة أن رئيس الحكومة عبّر، في أكثر من خرجة إعلامية، عن أنه لن «يتسامح مع المفسدين»، بل وكان واعيا، أشد ما يكون الوعي، أن معركته ضد الفساد لن تكون سهلة بالطريقة التي رسمها «الإسلاميون» في «زمن المعارضة». ولذلك، لم يتردد بنكيران أثناء تقديمه التصريح الحكومي أمام البرلمان من دعوة فرق الأغلبية والمعارضة إلى مساندته «حين يدق المفسدون طبول الحرب ضده». في السياق نفسه، يعتبر طارق أتلاتي، أستاذ العلوم السياسية، أنه يمكن النظر إلى تحريك ملفات الفساد في هذا الوقت من زاويتين أساسيتين، تتخذ الأولى، حسب أتلاتي، منحى إيجابيا، «حيث تكرس هذه المتابعات، وفي مقدمتها ملف عبد الحنين بنعلو، المرتكزات التي تعهّدَ بها ملك البلاد في خطاب 9 مارس، والذي ربط المسؤولية بالمحاسبة.. وقد ترسخ هذا المبدأ من خلال التنصيص عليه في الوثيقة الدستورية التي صادق عليها المغاربة». ويردف أتلاتي، في تصريح ل»المساء»، أن «متابعة المفسدين تحمل بين طياتها «رسالة» واضحة مفادها أن الديمقراطية المغربية بدأت تأخذ موقعها، ولذلك ينبغي، والحالة هذه، تفعيل هذا المرتكز عبر تحريك باقي الملفات التي تطرّقَ لها المجلس الأعلى للحسابات». ويقول أتلاتي، في معرض حديثه عن الدلالات الثاوية وراء إحالة بعض ملفات الفساد على القضاء، إنه «يجب النظر في الخلاصات التي توصل إليها المجلس الأعلى للحسابات بكل شفافية وينبغي تحريك ملفات المتابعة في حق كل الشخصيات التي ثبت تورطها في ملفات الفساد». أما البعد الثاني لموضوع المتابعات فهو يبدو سلبيا، في نظر أتلاتي، إذ «لا ينبغي أن تكون هذه الخطوات ذرا للرماد في العيون عبر إعطاء العبرة بعيّنة دون غيرها، وهنا نحيل إلى ملفات الفساد التي تحدث عنها الصحافي رشيد نيني، ومنها ملف عبد الحنين بنعلو، وبالتالي فهذه إشارة واضحة يجب التقاطها وإطلاق سراح رشيد نيني فورا».. وعليه، هل يمكن أن تنجح الحكومة الجديدة في كسب رهان محاربة الفساد، وكيف يمكن أن يتعاطى القضاء المغربي مع قضايا شائكة تتداخل فيها السلطة والمال؟.. وهل ستتحلى الحكومة والقضاء بالجرأة الكافية لمتابعة «الجناة»؟