عندما يتحدث السيد أحمد الميداوي، رئيس المجلس الأعلى للحسابات، عن السياسة فيجب الإنصات لما سيقوله جيدا، لأنه يوجد على رأس مؤسسة يمكن أن تتحول إلى آلة سياسية مدمرة في أيدي البعض لتصفية وجرجرة خصومهم أمام المحاكم وعلى الصفحات الأولى للجرائد. وعندما قال وزير المالية ورئيس التجمع الوطني للأحرار، في تصريح سابق له، إن تقارير المجلس الأعلى للحسابات ليست قرآنا منزلا، فقد انتظر الميداوي شهورا طويلة قبل أن يرد عليه، حيث انتظر إلى حدود ليلة الثلاثاء الماضي وخلال مناقشة مشروع ميزانية المجلس الأعلى للحسابات في لجنة المالية بمجلس المستشارين، لكي يقول الجملة التالية: «حتى لو أرادوا منا الرد سياسيا، فإننا لن نلج هذا الميدان، ولن يجرونا إلى السياسة حتى لو قالوا إن تقاريرنا ليست قرآنا منزلا، فهي ليست بهذه الصورة. لكن بها، على الأقل، ملاحظات تستوجب الأخذ بها لتفادي الأسوأ، وكل الملفات تم تبليغها إلى وكلاء الملك بالمحاكم». ما يهم الرأي العام في ما قاله السيد الميداوي ليس رده على وزير المالية صلاح الدين مزوار بشكل متأخر، عملا بالحكمة القائلة «اللي رد دقتو فعام زرب»، ولكن ما يهم هو الجملة الأخيرة التي أكد فيها أن كل الاختلالات التي رصدها قضاة المجلس تم تبليغها إلى وكلاء الملك بالمحاكم. بعد هذا التصريح الواضح للسيد الميداوي، يظل السؤال المعلق هو ماذا ينتظر السادة وكلاء الملك الذين تلقوا ملفات قضاة المجلس الأعلى للحسابات لكي يفتحوا تحقيقا قضائيا مع الأسماء الواردة فيها؟ إننا على بعد أسابيع قليلة من إعلان المجلس الأعلى للحسابات عن نتائج التقرير السنوي الجديد برسم 2009، ومع ذلك لم نر أثرا قضائيا للمسؤولين عن الاختلالات المالية والإدارية التي رصدها تقرير 2008. المشكل، إذن، ليس في قضاة المجلس الأعلى للحسابات الذين ينجزون مهمتهم على أحسن وجه، وإنما في قضاة النيابة العامة الذين يمتنعون عن تحريك المتابعة في حق هؤلاء المسؤولين. إن الحياد السلبي الذي تواجه به النيابة العامة التجاوزات التي تكشفها أجهزة المراقبة الرسمية في حق المال العام -كتقارير المجلس الأعلى للحسابات، أو تقارير المفتشية العامة التابعة لوزارة المالية أو وزارة الداخلية، أو التحقيقات التي تنشرها الصحافة معززة بالأدلة والبراهين- يصيب كل هؤلاء العاملين في ميادين المراقبة وحماية المال العام باليأس من جدوى عملهم. ومثلا، عندما نشرنا خبر نشر الملياردير حفيظ العلمي، صاحب شركة تأمين «سينيا السعادة»، لإعلان إشهاري في جريدته «يزف» فيه، لقرائها التسعمائة، خبرَ تعيينه لمحمد برادة في منصب مسير جديد بالشركة، وأشرنا إلى أن استغلال حفيظ العلمي للصفة الوزارية السابقة لمحمد برادة في الإعلان الإشهاري لشركته يخرق بشكل سافر مقتضيات الفصل 390 من القانون الجنائي الذي ينص، في فرعه السابع في باب «انتحال الوظائف أو الألقاب أو الأسماء أو استعمالها بدون حق»، على أنه «يعاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر وغرامة من 200 إلى 10 آلاف درهم للمسيرون والمديرون لشركة أو مؤسسة تجارية أو صناعية أو مالية، إذا وضعوا أو تركوا غيرهم يضع اسم عضو سابق في الحكومة أو اسم أحد رجال القضاء الحاليين أو السابقين أو موظف أو موظف سابق أو صاحب اعتبار سام، إذا كان الاسم مصحوبا بصفته تلك، في أية دعاية لصالح المؤسسة التي يديرونها أو التي يعتزمون إنشاءها». وبنشره لخبر تعيين محمد برادة في منصب جديد بشركة خاصة ونشر خبر التعيين على شكل إعلان إشهاري مقرونا بصفته الوزارية السابقة، وبصفته مديرا سابقا للمكتب الشريف للفوسفاط ومديرا سابقا للخطوط الملكية الجوية، وسفيرا سابقا للمغرب بفرنسا، يكون الملياردير حفيظ العلمي قد خرق فصلا من فصول القانون الجنائي، مما يحتم على النيابة العامة، وحرصا على احترام القانون، متابعته بتهمة «استعمال الوظائف الحكومية والألقاب السامية بغاية الدعاية لشركته». هل تستطيع النيابة العامة أن تتابع الرئيس العام لشركة «سينيا السعادة»، هي التي وقعت مع مديرها أمام عدسات مصوري القناة الأولى قبل شهر ونصف اتفاقية للتأمين على مرض قضاتها وموظفيها. وإذا كان أمر متابعة هذا الملياردير، الذي تجرأ ذات صيف وقال إنه هو من يحكم المغرب، يطرح حرجا بالنسبة إلى النيابة العامة، فهل ستشعر هذه الأخيرة بالحرج إذا دخل أحد قضاتها إلى الموقع الإلكتروني للصندوق الاستثماري «ميطانديس»، الذي يملك أسهمه المليارديرات الثلاثة عادل الدويري وإدريس جطو وعثمان بنجلون، واكتشف أن السيد عادل الدويري يخرق بدوره القانون الجنائي بوضعه لصفته كوزير سياحة سابق في الصفحة المخصصة له في موقع شركة «ميطانديس». إن الفصول القانونية وضعت لكي يتم احترامها بالحرف. وأول من يجب عليهم إعطاء المثل في احترام القانون هم المسؤولون العموميون والرسميون أو الذين سبق لهم أن تحملوا مسؤولية وزارية. عندنا نحن، العكس هو ما يقع. فبعض هؤلاء المسؤولين هم أول من يعبث بالفصول القانونية ويستغل صفته الوزارية أو السامية لتلميع صورة شركته أو شركات شركائه. إن العبث بالفصول القانونية وتحقير المقررات القضائية يظهر بجلاء عندما ننشر على صدر هذه اليومية تقريرا مفصلا عن الشركات التي يملكها موظف عمومي هو برق الليل، ذكر اسمه في تقرير المجلس الأعلى للحسابات بسبب الخروقات التي سجلها القضاة خلال الفترة التي كان يسير فيها مديره عبد الحنين بنعلو المكتب الوطني للمطارات. ورغم أننا ذكرنا الشركات التي في اسمه واسم زوجته وأسماء بناته وأفراد عائلته داخل المغرب وخارجه، ورغم أن قانون الوظيفة العمومية يمنع على الموظفين الجمع بين وظائفهم وبين وظيفة تسيير الشركات الخاصة، فإن النيابة العامة لم تر داعيا إلى فتح تحقيق حول مصادر تمويل هذه الشركات الكثيرة التي يرد فيها اسم «برق الليل»، خصوصا وأن الرجل يوجد اسمه ضمن الأسماء السبعة عشر التي استدعاها الوكيل العام للمجلس الأعلى للحسابات للمثول أمامه على خلفية التقرير الذي أحصى فيه قضاة المجلس كل الفضائح المالية والإدارية التي ارتكبها بنعلو، الذي يستمد حمايته من عبد الواحد الراضي، رئيس البرلمان، وزوج أخت هذا الأخير. عندما نتأمل «المسيرة» المهنية لبرق الليل، صاحب الشركات متعددة الاختصاصات داخل المغرب وخارجه، نكتشف أن مسيرة الرجل ينطبق عليها المثل القائل «برق ما تقشع»، خصوصا عندما نعرف أن الرجل بدأ مجرد موظف بسيط في قسم الأرشيف بإدارة الجمارك بشارع الراشدي بالدار البيضاء، قبل أن يأتي به وزير النقل الحركي «عبد الله زنيند» إلى إدارة الموارد البشرية بالمكتب الوطني للمطارات أيام «كديرة». وبعدما ذهب «كديرة» مع مجيء الملك محمد السادس، بقي برق الليل إلى جانب ولي نعمته عبد الحنين بنعلو، الذي اكتشف في الاتحاد الاشتراكي الملاذ الحزبي المناسب للتغطية على تجاوزاته. ولهذا السبب، عندما صدر أول مقال ضد برق الليل في جريدة الاتحاد الاشتراكي، كان رد فعل عبد الحنين بنعلو هو نقل برق الليل من قسم الموارد البشرية إلى مديرية «اللوجستيك»، أي «بلاصة التمخميخ». وعندما صدر المقال الثاني ضد برق الليل في جريدة الاتحاد الاشتراكي، عين بنعلو هذا الأخير مديرا لديوانه «باش تكمل الباهية». السؤال الذي لم يطرحه أحد في النيابة العامة هو: كيف استطاع هذا الموظف الذي بدأ براتب لا يتعدى 7 آلاف درهم أن يصل، في ظرف سنوات قليلة، إلى راتب شهري يتعدى 32 ألف درهم وحيازة ثماني شركات داخل المغرب وخارجه، وحساب بنكي بالملايير في باريس؟ إن قصة صعود نجم برق الليل تستحق لوحدها ملفا صحافيا لن تكفي أسابيع طويلة لنشر كل أسراره وخباياه. كما أن قصة هذا الصعود هي التجسيد الأسمى لغياب القانون أو بالأحرى عدم قدرته على مواجهة «اللوبيات» القوية التي تتشابك مصالحها وتتداخل فيها علاقات المصاهرة بالمعاملات التجارية. لهذا، فالبرقيات، التي ينشرها موقع «ويكيليكس» حول فساد القضاء في المغرب، لم تثر دهشتنا، لأننا كنا سباقين إلى إعطاء الدليل تلو الدليل على وصول القضاء إلى حالة من الضعف أصبح معها عاجزا عن تطبيق القانون على مسؤولين أصبحوا يحتقرون فصوله ويقفزون فوقها بتنطع وبلا خجل. وإذا كانت النيابة العامة لا ترى ضرورة لفتح تحقيقات معمقة مع السيد برق الليل لكي تسأله سؤالا واحدا هو «من أين لك هذا؟»، فنحن من جانبنا سنحاول توضيح أسباب تهيب النيابة العامة من الاقتراب من طرح هذا السؤال المحرج. ومن أجل ذلك، يجب أن نبدأ القصة من أولها. غدا نحكي قصة برق الليل وخالته الممثلة أمينة رشيد وكيف تحول أخوها «ميمي» من طبيب إلى رجل أعمال في خدمة «برق الليل» وثروته الموزعة بين المغرب وإسبانيا وسويسرا وباريس.