«اللباس البرتقالي والسلاسل الحديدية واللاصق الأسود هي تلك الصور التي شاهدناها ولا نزال نشاهدها للمعتقلين الذين أطلقت عليهم الولاياتالأمريكية لقب «الإرهابيين». صور تثبت لنا حجم الضبابية الذي لا يكاد يزول عن ادعاءات الولاياتالمتحدة المزيفة والحقائق، التي طالما رآها البعض في أمريكا باعتبارها راعية حقوق الإنسان والعدالة والمساواة والمعتقدات الدينية. حقائق يكشف عنها إريك سار (رقيب في الجيش الأمريكي وأحد المحققين في غوانتانامو بعد فترة ستة شهور قضاها مع المعتقلين) والصحفية فيفكا نوفاك (مراسلة صحيفة «واشنطن بوست» وعضو الجمعية الأمريكية لحقوق الإنسان والحريات المدنية). حقائق تبين لنا مقدار الغطرسة الأمريكية في جحيم غوانتانامو، الذي بدأت السلطات الأمريكية باستغلاله مع بداية سنة 2002 بعد احتجاز من تشتبه في كونهم إرهابيين ينتمون إلى تنظيم القاعدة. حقائق تكشف لنا جوانب مظلمة وممارسات وحشية وأساليب منافية للمواثيق والأعراف الدولية تجاه المعتقلين. اكتشفت من خلال العمل مع ميتشل بأن الوكالات الحكومية وكذا القيادات الموجودة في غوانتانامو كانت تمتلك صلاحيات تمنح الحوافز العديدة، التي يمكن تقديمها للمعتقلين، الذين كانوا يبدون تعاونا إيجابيا مع المحققين، فبالإضافة إلى الأريكة والسجائر ووجبات ماكدونالد وغيرها، كانت هناك قاطرة يطلق عليها اسم «كوخ الحب»، وكان الأسرى الذين تتم مكافأتهم ينقلون إلى تلك القاطرة في رحلة قصيرة، حيث الاستمتاع بحمام ساخن ووجبات طعام سريعة وجيدة ومشاهدة بعض الأفلام والاتصال بعائلاتهم في بعض الأحيان. كذلك اكتشفت، من خلال عملي أيضا مع ميتشل (حيث أسلوبها المرن والشيق في التعامل مع المعتقلين عكس أساليب بن ومارك وغيرهما من المحققين التي كانت تنم عن الحقد والكراهية والعنصرية)، أنه ولكي نحرز تقدما مهما مع المعتقلين، علينا أن نفهم مبادئ دينهم جيدا (كان هذا الفهم العميق سببا مباشرا في إسلام العديد من الضباط والجنود في غوانتانامو)، خاصة أن الكثير من المعتقلين كانوا إما قد وصلوا إلى هنا وهم يحملون إيمانا قويا، وإما قد تحولوا إلى ذلك الاتجاه بعد اعتقالهم، وبالتالي، فإن النقاشات الدينية معهم (كما كانت تفعل ميتشل) كانت ستزيد من احتمالات أن يتخلى المعتقل عن حذره ويظهر بالتالي مشاعره الحقيقية حول الجهاد والمقاومة، فمثل هذا الأمر كان ضروريا للوصول إلى جبهة الإرهاب الأساسية (كانت تلك الرؤيا غائبة في رؤية العديد من المحققين، الذين عملت معهم داخل المعتقلات، والذين كانوا لا يعرفون شيئا عن العالم الغريب الذي كان سائدا داخل مجمع الزنزانات حيث يعيش هؤلاء الرجال المعتقلون)، خاصة إذا علمنا أن المعتقلين كانوا لا يملكون سوى الأمل اليائس، باعتباره الاعتقاد الوحيد الذي سيكفل لهم البقاء أقوياء، حسب ما كان يأتيهم به الجن الذي كان يزورهم من وقت إلى آخر (كانوا يعترفون بزيارة الجن لهم في زنازينهم حاثا إياهم على الصمود والبقاء أقوياء حتى يأتي الفرج). وفوجئت أحد الأيام عندما رأيت ثوبا نسائيا قصيرا جدا وبعض الملابس الداخلية المعلقة خلف باب مكتب أعضاء التحقيق (كنت حينها قد ذهبت لإرسال إحدى الرسائل بالبريد الإلكتروني)، فسألت أحد المحققين عن صاحبة هذه الملابس، لكنه تجنب سؤالي ولم يمنحني إجابة عليه، واتضح لي فيما بعد أن تلك الملابس كانت لإحدى المحققات الذي كان فريقها يعمل في منتصف الليل، وأن تلك الملابس تستخدمها تلك المحققة حين استجوابها لمعتقل سعودي يرفض الاعتراف والتجاوب معها، مبررة ذلك بأن هؤلاء الرجال يعتمدون على دينهم ويكسبون قوة من ذلك الارتباط القوي مع الدين، فخططها كانت تقضي بأن تلبس ثيابا مثيرة جنسيا لتجعل المعتقل يفقد إحساسه بالنقاء ويعتقد انه لا يستحق أن يقف أمام الله في الصلاة، وبذلك يفقد مصدر قوته، (قال لي أحد المترجمين الذي رافقها في إحدى جلسات الاستجواب إنها خلعت كل ملابسها وأبقت على صدرية وحزاما جلديا دقيقا فقط). جزيرة الشيطان كانت مثل هذه الإجراءات تتم بعد أن فقد المحققون والمترجمون، على حد سواء، صبرهم وقوتهم لمزيد من العمل في غوانتانامو، خاصة أن القيادة عمدت إلى تمديد مهمات عدد من المحققين والمترجمين بشكل إلزامي، بمن في ذلك أحمد الحلبي (بعد أن عاد من غوانتانامو) وسام وغيرهما، وقد تم إبلاغ جميع المترجمين العسكريين من قبل قيادة المعسكر أن علينا أن نجد بديلاً لنا من وحداتنا في أمريكا أو نبقى في غيتمو إلى أجل غير مسمى (بغض النظر عما كان مكتوباً في أوامر المهمات الخاصة بنا)، إذ إن المعسكر بحسب قول القيادة كان فيه 46% فقط من عدد المترجمين الذين يحتاجهم. وكان هذا الأمر يجعل المترجمين يشعرون بالغضب لأنهم كانوا يتوقون للعودة إلى ديارهم ومغادرة هذا المكان اللعين. كان الأمر مثيراً للسخرية، فما كان يحدث هو أن كثيرين ممن يعملون في المعسكر كانوا يتذوقون نفس طعم المرارة التي كان المعتقلون يتذوقونها، ذلك أنهم لم يكونوا يعرفون ما إذا كانوا سيتمكنون من مغادرة غيتمو، وهو إحساس بالعجز الكامل الذي يرافق عدم معرفة متى تنتهي معاناتك السيئة، كان المعتقلون يسألون كل يوم: «متى سنغادر هذا المكان؟ متى سنغادر جزيرة الشيطان هذه؟ فلولا وجودنا هنا، لربما كنا انضممنا إلى إحدى الوحدات العسكرية التي لا تبارح ارض الولاياتالمتحدة. كان العديد منا لديه أصدقاء أو أقارب ذهبوا إلى هناك، كان أحمد الحلبي في مهمة جسر جوي لإحضار معتقلين من أفغانستان عندما اندلعت الحرب في العراق، وكان في اليوم الذي سبق بداية القصف قد طار مع المجموعة المرافقة من غوانتانامو إلى قاعدة «انجرليك» في تركيا، وباتت المجموعة ليلتها في تركيا، ولكنهم عندما حاولوا الإقلاع في اليوم التالي إلى أفغانستان منعهم الأتراك، الذين لم يكونوا يريدون أن تستخدم الولاياتالمتحدة بلدهم كمركز لشن الحرب على العراق، وبقيت الطائرة عالقة ستاً وثلاثين ساعة قبل أن يسمح لها بالإقلاع مجددا باتجاه غوانتانامو. المعسكر رقم (4) وفي تلك الفترة نفسها، وقبل عودة الحلبي مع المعتقلين الجدد، غادرت طائرة أخرى المعسكر وعلى متنها معتقلون تم الإفراج عنهم (ثمانية عشر أفغانياً قضوا في غيتمو عدة شهور قررت الحكومة بعدها أنهم ليسوا مقاتلين أعداء)، دون أن يحصلوا على اعتذار أو نقود لتعويضهم عن خسارة حوالي سنة من حياتهم ولمساعدتهم على بداية حياتهم من جديد. وخلال إحدى الأمسيات، كنت أتحدث مع بعض المحققين وشرحوا لي أنهم عندما يكملون ملفاً ما عن أحد المعتقلين غير المهمين ويرفعون تقريراً يوصي بإطلاق سراحه، كان التقرير يذهب إلى قيادة غوانتانامو، ومن ثم يتم إرساله إلى القيادة الجنوبية في ميامي، ومن ثم إلى البنتاغون، وما إن يصل التقرير إلى واشنطن حتى تصبح القرارات سياسية، فهناك سيقولون: كيف سيبدو الأمر إذا أطلقنا سراح معتقلين الآن، هل إطلاق سراح كثيرين سيجعل عملية غيتمو تبدو سيئة؟؟ وغيرها من الأسئلة التي تدخل في حسبان من يتخذ القرار. كانت القيادة في واشنطن تريد أن يرشح المعتقلون بأعداد قليلة للتقليل من مخاطر التغطية الإعلامية السيئة. ففي بداية أبريل افتتحت منطقة اعتقال جديدة في المعسكر وهي أقل سوءاً من المناطق الأخرى وأطلقت عليها القيادة معسكر (4)، وكان مخصصاً لأكثر المعتقلين تعاوناً، هناك يتم استبدال الملابس البرتقالية بملابس بيضاء وكان المعتقلون ينامون في زنزانات جماعية تحوي حتى 10 أشخاص في الزنزانة وكانت الأسّرة مريحة أكثر، كما يحصل المعتقلون في معسكر 4 أيضاً على سجادات صلاة ملونة ويأكلون طعامهم في الخارج مع بعضهم، وكانت لديهم فرصة كبيرة ليلعبوا كرة القدم أو ألعاباً أخرى في الساحة التي في وسط ذلك المعسكر. كان معظم المعتقلين في غيتمو يعتبرون المعسكر 4 جيداً، وكان المحققون يعرفون ذلك، كانوا يرتبون الأمر بحيث يقوم عناصر من الشرطة العسكرية بمرافقة الأسرى ليمروا قربه وهم في طريقهم إلى غرف التحقيق، وكانوا يحاولون إغراءهم به أثناء الاستجواب. كان جميع المعتقلين يريدون الذهاب إلى ذلك المعسكر (رقم 4)، لكن ما ثار انتباهي هو أربعة عراقيين شيعة وسنة كانوا الوحيدين الذين لم يكونوا يرغبون بالذهاب إليه. لم أكن أعي سبب رفضهم في البداية، لكني علمت فيما بعد بأنهم يرفضون ذلك خشية قتلهم من طرف المعتقلين الآخرين، خاصة أنه كانت هناك فتوى تجيز قتلهم والتخلص منهم لاعتبارات اعتبروها تشكل خيانة لهم نظير اعترافاتهم للمحققين عن بعض المعتقلين السعوديين والأفغان. إجازة قصيرة في تلك الفترة، ذهبت في إجازة قصيرة إلى الولاياتالمتحدة وقضيت فترة ممتعة مع أهلي وأصدقائي. وشعرت خلال تلك الفترة أن علاقتي مع صديقتي كانت تزداد قوة أكثر فأكثر، رغم بعد المسافات بيننا، لذلك كان وداعي لها لأعود إلى غيتمو قاسياً وصعبا، كان من الأمور التي عرفتها لدى عودتي ازدياد التوتر بين المترجمين في مجموعة عمليات المعتقلين المشتركة، وقيام مجموعة من قسم مكافحة التجسس بتفتيش مكتب الكابتن منصور، دون أن يجري بحث عن أي رسائل أو برامج كمبيوتر أو غير ذلك من الأدلة، التي قد تكون مريبة ومثيرة للشكوك، وعلمت كذلك بأن المعتقل السعودي (القحطاني أو المختطف العشرين) قد دخل في غيبوبة منذ فترة ولم يفق منها بعد رغم محاولات الفريق الطبي لإعادة تأهيله. كان ذلك المعتقل قد تعرض للضرب والتنكيل على أيدي عناصر الشرطة والحراس والمحققين بالتناوب. إلا أن موقفه تغير لاحقاً وأصبح يتسم بالمرارة وبدأ يميل إلى الاعتقاد أن سبب دخوله في غيبوبة كان تعرضه للضرب على يد الحراس، وليس محاولته الانتحار. الترجمة خلال الاستجواب قد تشكل مشاكل حقيقية أحياناً. في إحدى الجلسات مع بن، وجدت نفسي أتساءل حول كيفية نقل وترجمة بعض الشتائم التي كان يكيلها بن للمعتقل، والتي لم يكن لها مقابل باللغة العربية. في إحدى أمسيات أبريل، وفيما كنت أهم بمغادرة المكتب في نهاية الدوام، حضرت بروك، وهي من الاستخبارات العسكرية، وسألتني إذا كنت أستطيع مساعدتها في إحدى جلسات التحقيق تلك الليلة. كنت قد بدأت أفقد حماسي الذي بدأت العمل به وذهب عامل الفضول، الذي كان لدي. كنت فقط أعد الأيام للعودة إلى بلدي. سألتها: «متى تحتاجين إلي؟» قالت: «لماذا لا تأتي حوالي الساعة الحادية عشرة ليلاً؟» قلت: «لا بأس سأوصل المترجمين المدنيين إلى منطقة سكنهم حوالي الساعة الثامنة وسيكون لدي بعض الوقت للراحة قبل العودة إلى هنا، لكن من هو المعتقل الذي سنقوم باستجوابه؟»، أجابت بروك: «شخص اسمه فريق، وهو سعودي شاب قالت لنا إحدى وكالات الاستخبارات الأخرى إنه أخذ دروساً في الطيران في نفس الولاية التي كان فيها أحد الخاطفين، وقد رفض التحدث عن هذا الأمر منذ أن واجهناه به، لقد بدأت قيادتي تضغط علي كثيرا وتوبخني لأنه يرفض الكلام، علينا أن نجرب شيئاً جديداً الليلة». كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب