في هذه الأيام التي أصبحت فيها أعصابنا رمادا وطوقتنا فيها الأحزان من كل مكان، يكتب إليك محام يحبك حتى الثمالة ويؤمن بقضيتك بكل تفاصيلها وأنت تتعرض في دولة الحق والقانون لظلم لا مثيل له في تاريخ الظلم. وتفصيل مأساتك وسجنك أنك نشرت في عمودك نقدك للمؤسسات وللشخصيات العامة المفترض نقدها تصحيحا وتقويما، وليس انتقاما أو تحاملا، وكشفت فيه عن مناطق الوجع في جسدها، لاقتناعك الصميمي بأن ما انتهينا إليه لا يعالج بالتواري والهروب وإنما بالمواجهة الكاملة لعيوبنا وسيئاتنا. وإذا كانت صرختك في جريدتك حادة وجارحة، وأنا أعترف سلفا بأنها كذلك، فلأن الصرخة تكون بحجم الطعنة، ولأن النزيف بمساحة الجرح. من منا، يا رشيد، لم يضجر من الفساد؟ من منا لم يخدش بأظافره؟ إن تجرأ مسؤول على المس بكرامته أو تجرأ مسؤول على نهب مال كان يدفعه بضرائبه والتزاماته. من منا لم يكره نفسه وثيابه وظله على الأرض، إذا مورس عليه ظلم من حكم جائر لم تراع فيه أبسط قواعد العدالة الاجتماعية. إن عمودك كان محاولة لإعادة تقديم أنفسنا كما نحن، أشخاصا ومؤسسات، بعيدا عن التبجح والمغالاة والانفعال، وبالتالي كان محاولة لبناء صحافة تشاركية تمارس سلطتها الرابعة، بفكر جديد يختلف بملامحه عن ملامح فكر ما قبل تعديل الدستور، وها أنت اليوم تقبع في سجن عكاشة وتؤدي ضريبة التغيير الذي ينشده المغاربة منذ سنوات أملا في مغرب جديد وديمقراطي. يا رشيد.. إنك لم تقل أكثر مما قاله غيرك ولم تغضب أكثر مما غضب غيرك من الصحافيين الأجلاء الذين قضوا نحبهم، وكل ما فعلته أنك صغت بأسلوب أدبي نقدي وصحفي ما صاغه غيرك بأسلوب سياسي. إنك لم تخترع شيئا من عندك، فأخطاء من يتقلد المسؤولية في هذا البلد، النفسية والسياسية والسلوكية، مكشوفة ككتاب مفتوح. وماذا تكون قيمة الصحافي يوم يجبن عن مواجهة الحياة بوجهها الأبيض والأسود معا؟ ومن يكون الصحافي يوم يتحول إلى مهرج يمسح أذيال المجتمع وينافق له. لذلك أوجعنا، يا رشيد، أن يتم سجنك تحت غطاء القانون الجنائي ولم تتم مناقشة قضيتك من منطلق قانون الصحافة. أوجعنا، يا رشيد، أن تحرم ابنتك مريم ذات الأحد عشر ربيعا من قبلاتك الصباحية ولمسات يدك لشعرها وندى حنانك وعطفك كل يوم. أوجعنا، يا رشيد، أن يفرض حصار مطبق على زنزانتك وأنت السجين وكأنه لا يكفي السجن لسرقة حريتك، مع أن القضية ليست قضية مصادرة حرية أو مصادرة طاقة خلاقة ومبدعة اسمها رشيد نيني، لكن القضية أعمق وأبعد. القضية هي أن نحدد، نحن المتلقين، موقفنا من الصحافة المغربية، كيف نريدها.. حرة أم غير ذلك؟ شجاعة أم جبانة؟ حازمة جازمة أم مهرجة؟ القضية هي أن يسقط أي صحافي يؤمن بقضيته وثوابت وطنه تحت حوافر الفكر الغوغائي لأنه تفوه بالحقيقة. والقضية، أخيرا، هي ما إذا كانت عقوبتك بسياط القانون الجنائي كفيلة بتكميم باقي الأفواه، وتكسير باقي الأقلام، وإجهاض قانون الصحافة. أكتب إليك يا رشيد، لكي لا أقتل فيك رشيد بغيرته وحسه ووطنيته رغم ملوحة الكلمات ومرارتها. يا رشيد، لم يكن بإمكانك، وبلادك تتجاذبها أطياف الفساد، الوقوف على الحياد كما يفعل البعض، فحياد الصحافي موت له. فلم يكن بوسعك أن تقف أمام جسد مؤسسات مريضة تعالجه بالأدعية والحجابات، فالذي يحب بلاده، يا رشيد، يطهر جراحها بالكحول ويكوي -إذا لزم الأمر- المناطق المصابة بالنار، فلا نستغرب الموقف العدائي الذي عبرت عنه بعض الصحف تجاهك بأقوال بعض مرتزقة الكلمة والمتاجرين بها، ولا نطلب شيئا أكثر من محاكمتك بقانون الصحافة بدلا من القانون الجنائي، ولذلك انسحبنا من جلسة المحاكمة مرتين على التوالي، لكي لا نشهد التاريخ على مسرحية هزلية من مائة فصل اسمها المحاكمة، ذلك أن أبسط قواعد العدالة أن يسمح للكاتب بأن يفسر ما كتبه وللمقتول بأن يسأل عن سبب قتله. لا نطالب، يا رشيد، إلا بحرية الكتابة، فقد تمكنت من خلال عمودك من أن تدخل كل بيت مغربي وتدغدغ عواطف أمهاتنا وآبائنا، بل أجدادنا أيضا، وتنزع أدعية عفوية بالتوفيق والسداد وفصل الخطاب، كلما تناهى إلى مسامعهم ما كنت تكتبه في عمودك، فلماذا تحرم من الكتابة وأنت سجين؟ ومتى كان المغرب يغلق أبوابه في وجه الكلمة ويضيق بها؟ يا رشيد، لا نريد أن نصدق أن مثل مؤسساتنا تعاقب النازف على نزيفه والمجروح على جرحه، وتسمح باضطهاد صحافي أراد أن يكون شريفا وشجاعا في مواجهة نفسه ووطنه فدفع ثمن صدقه وشجاعته.
محام بهيئة خريبكة وعضو هيئة دفاع رشيد نيني عبد الصمد خشيع