في مدينة أزيلا ، حيث تسجل نسبة الفقر مستويات عليا مقارنة بمدن أخرى من المغرب، وصلت -حسب آخر الإحصائيات الرسمية- إلى 43 في المائة. هنا، توجد أفقر الجماعات القروية في المغرب، وتبدو المدينة لزائرها كأنه في حي هامشي من أحياء المدن الكبرى.. باستثناء شارع الحسن الثاني، الذي يخترق المدينة ويخفي خلفه مآسي أحياء كبيرة، والشارع الثاني الذي يربط بين مقر العمالة ووسط المدينة. و«تتلخص» المدينة في صور تتكرر كلما زرت الأحياء الهامشية، مثل أحياء «إزلافن» و«أليلي» و«المدينة القديمة»، أو عندما تصبح الصورة أشد قتامة بزيارة حي «إغير لمودن»، حيث يتعايش المواطنون مع الفيضان شتاء ومع الأفاعي والعقارب والحرائق صيفا. لم يجد أغلب السكان القادمين من المداشر الجبلية ما يتدبرون به مصاريف حياتهم اليومية، وكان افتتاح مؤسسات للقروض الصغرى «أمل» العديد من النسوة المدينة، إذ كان الإقبال كثيفا بحجم الحاجة والفقر المنتشرين، فطبيعي في مدينة أغلب سكانها هم من الفقراء أو من ذوي الدخل المحدود أن يكون الإقبال كبيرا على مؤسسات ظاهرها منح الأموال بسخاء وبشروط جد مُيسَّرة، وباطنها يخفى على من يوقع عقودا لا يعلم محتواها، ما دامت الحاجة إلى المال تعمي بصيرة التمعن في تلك العقود أو عرضها على من يرشد إلى سراديب مغلقة.. وبقدر ما كان الإقبال كبيرا، كانت مؤسسات القروض الصغرى ترى في أزيلال مرتعا خصبا لنجاحها، فقد وصل عدد مؤسسات هذه القروض في مدينة لا يتجاوز سكانها بضع آلاف أكثر من سبع مؤسسات في ظرف قياسي.. كان الأمل يحذو نسوة ورجال فقراء في أن تُمكّنهم القروض من فتح آفاق جديدة بأحلام وردية رسمها لهم في الخيال ممثلو مؤسسات القروض الصغرى.. أغرى الإقبال الكبير على مؤسسات القروض الصغرى والتطلع إلى استثمارات خاصة العديد من أرباب الأسر، الذين قاوموا الإغراء الكبير بالاقتراض، قبل أن يجدوا أنفسهم، في نهاية المطاف، متورطين في قروض من عدة مؤسسات، كانت التسهيلات المغرية التي توفرها هذه المؤسسات المتنافسة في ما بينها تخفي خلفها مآسيَّ كثيرة ستظهر لاحقا وسط فئة واسعة من المقترضين، خاصة في صفوف النساء. وقد انطلقت أولى الظواهر بشيوع حالات طلاق كثيرة وسط المقترضين، وتلجأ أغلب النسوة إلى الاقتراض خفية عن أزواجهن، وهو وضع يريح المؤسسات المانحة للقروض ،فالنساء «أسهل» وأكثر «تصديقا للوعود».. تحكي «خديجة»، الزوجة الشابة، أنها حاولت مساعدة زوجها دون علمه بتدبر وتوفير استقرار مالي لأسرتها الصغيرة. اتجهت، مثل العديد من جاراتها، لمؤسسات للقروض الصغرى، اقترضت حوالي25 ألف درهم من عدة جمعيات لفتح محل للملابس. كانت «تحلم» أن تصبح تاجرة متوسطة تجعل زوجها أكثر فخرا بها. ولم تكن تتوقع أن تكون «أحلامها الوردية» البسيطة سببا في «كوابيس» تطاردها في كل لحظة.. لم تقم المؤسسات المانحة للقروض بدراسة جدوى للمشروع ولم تقدم أدنى مساعدة ل»خديجة» ولم تتبع أين صرفت تلك الأموال، وساهم الركود الذي تشهده مدينة صغيرة كأزيلال في التعجيل بفشل مشروع «خديجة»، لتجد نفسها اليوم تبكي وضعها.. لجأت للمؤسسات التي أقرضتها لتجد نفسها مكبلة بنسب أعلى من التي كانت قد اتفقت، شفويا، حولها. حاولت، مرارا، إخفاء الأمر عن زوجها، لكنها لم تتمكن بعد كثرة الإنذارات الكتابية التي أصبحت تتوصل بها. كان غضب الزوج كبيرا، لكن «خديجة» تعتقد أن غضب زوجها سيخبو لو تمكنت من تسديد تلك القروض الكثيرة التي تكبّلها وتزيد معاناتها، بعد تهديدها مرات عديدة بالسجن من طرف مستخدمي مؤسسات القروض. تفكر «خديجة» في «الهروب» بعيدا، لكنها لا تستطيع. تراقب أبناءها وتبكي في صمت. تلعن حظها العاثر وتصف نفسها بأقدح النعوت، لأنها فكرت يوما أن ترتمي بين أحضان مؤسسات القروض الصغرى، بدل استكانتها إلى الفقر، لتجد نفسها وقد «غرقت» في قاع بئر عميقة، بعد أن «قامرت» بمصير أبنائها وزوجها. لم تكن «خديجة» الضحية الوحيدة، فمثلها كثير من «الحالات» في أزيلال. ربات بيوت كن يحلمن بالتخلص من العمل في المقاهي بأجر زهيد لا يتجاوز 300 درهم شهريا، وأمهات كن يحلمن بأن يظل أبناؤهن في المدارس بدل تشغيلهم في مِهن وحِرَف عديدة مقابل دراهم معدودة، فوجدن أنفسهن، بعد انجلاء بريق الحلم، مهددات بالسجن أو في خضم مشاكل زوجية وعائلية لا حدود لها. «أمينة»، 29 سنة، متزوجة وأم لثلاثة أطفال، حكايتها واحدة من حكايات كثيرة في المدينة الصغيرة. تؤكد «أمينة» أنها اقترضت من سبع جمعيات حوالي 30 ألف درهم، بإذن زوجها، بهدف التعاون معه. أنشأت «أمينة» مشروعا لتربية المواشي، حيث عملت على بيعها وتسديد الدفعات قبل نهاية المشروع واكتماله. بدأت مشاكل أمينة عندما أحكمت مؤسسات القروض الصغرى الخناق عليها وطالبتها بتسديد الدفعات قبل الآجال المتفق عليها، كما كانت تعتقد، لكن العقود كانت تحمل تواريخ متقدمة. وجدت «أمينة»، التي اتفقت مع زوجها في بداية إقدامها على الاقتراض، نفسها وحيدة في مواجهة تلك المؤسسات. سحب منها زوجها دفتر الشيكات وتركها تواجه وحدها تهديدات بالسجن من أجراء مؤسسات القروض الصغرى، التي تختفي تحت مسمى «الجمعيات».. تبكي «أمينة» بحرقة وتحضن أطفالها، خوفا من السجن وانتظارا للتشرد والضياع، بعدما خاف زوجها من تهديدات المؤسسات وحمّلها وحدها مسؤولية تسديد القروض. لا تختلف معاناة «فاطمة م.» كثيرا عما تعانيه أمينة، إذ اقترضت بدورها حوالي 30 ألف درهم قصد استثمارها في مشاريع كانت تعتقد أن» مخادعة» المؤسسات والجمعيات المانحة للقروض تكفي لاستلام الأموال التي تحتاجها. لم تكن تعلم أن ما يربطها من عقدة بجمعيات ومؤسسات القروض الصغرى يلزمها بإرجاع الأموال في آجال محددة، إضافة إلى فوائد كبيرة. صارت فاطمة اليوم تفكر في الهروب من أزيلال ،تجنبا للخيار الثاني بتعريض أسرتها للتفكك وأطفالها للتشرد بعد تهديدها بالسجن.. تتشابه المأساة، لكن «فتيحة»، كما تسمي نفسها، لا تخجل من البوح أنها احترفت الدعارة رغم أنها متزوجة: «ربما يعلم زوجي، لكننا لا نناقش الموضوع.. لا تترك لنا حاجتنا اليوم إلى المال مجالا لمناقشة الأمر، كل همنا أن نسدد ما علينا من قروض تكبّلنا، أصبحنا نعيش رهابا حقيقيا ولا نعاشر بعضنا إلا لماما، لأن البيت أصبح جحيما وأبناؤنا مهددون بالتشرد، بسبب ما تورطنا فيه من قروض سددنا قرابة ضعفها، دون أن نعلم أننا ما زلنا مدينين بدفعات إضافية». وأكد ممثل إحدى مؤسسات القروض الصغرى في أزيلال- رفض ذكر اسمه- ل«المساء» أن «المشكل يكمن في كون إقليم أزيلال معروفا بالفقر المدقع الذي تعانيه الأسر، مما يجعله هدفا لتوافد عدة مؤسسات للقروض الصغرى، التي تنتهج طرقا الهدف منها تمويل مشاريع قد تكون وهمية.. ولا تقوم أغلب المؤسسات بتتبع هذه المشاريع»، وأضاف نفس المصدر أن «جهل وأمية المستفيدين من القروض الصغرى في أزيلال هو سبب تفاقم مشاكل بالجملة، إضافة إلى عدم تتبع مؤسسات القروض الصغرى للمشاريع التي تم تمويلها، واستفادة أشخاص من عدة مؤسسات في آن واحد، مما يجعل المستفيد، حين تشتد عليه الدوائر، يفكر في الهرب، بدل تسديد ما عليه من ديون وفوائد للمؤسسات التي قدمت له قروضا.» تخفي تصريحات ممثل المؤسسة وراءها عالما من التحايل، يفضحه أحمد، الأجير السابق في مؤسسة للقروض الصغرى: «النساء أسهل علينا في الإقناع وأسهل في توقيع العقود.. تبدو لهن الأموال التي يحصلن عليها أهمَّ من أي وثيقة يوقعن عليها، قبل أن يجدن أنفسهن مقيدات بشروط كثيرة»، يقول أحمد، قبل أن يضيف: «لا مكان هنا للعواطف، أنت مُطالَب بنسبة من المقترضين، وعليك، لكي تنجح وتنال مكافآت وحوافز من المؤسسة، أن تجلب أكبر قدر من المقترضين وأن «تورّط» أكبرَ عدد من الضحايا في توقيع عقود بنسب لا يعلمون عنها شيئا».. تفسر كلمات أحمد بجلاء ما يحدث لاحقا: «عندما تبدأ أولى عمليات التسديد، لا ينبته أغلب المقترضين إلى أنهم بصدد مسلسل طويل لا ينتهي بدخول الأجراء على الخط وبالتحايل على دفعات الأداء، ليجد المقترض نفسه، بعد إحصاء كل دفعاته، مُطالَبا بأداء أضعاف ما تم الاتفاق معه حوله من قيمة القرض».. قرر أحمد، الطالب السابق الذي قضى أربع سنوات متنقلا بين ثلاث مؤسسات للقروض الصغرى في لحظة ندم، أن ينسحب من عمل اعتبره «إجراميا» بالتحايل على الفقراء والمحتاجين واستغفالهم بعقود تصل فيها نسب الفوائد أحيانا إلى 70 في المائة.. يتذكر اليوم حالات عديدة لأسر يعتبر نفسه سببا في تفككها وتشريدها، لأنه لم يُنبّه أفرادها إلى ما ينتظرهم من «أغلال» و«قيود» تفرضها المؤسسات التي كان يعمل فيها: «كنت مُكرَها على القيام بعملي، لكن أعتقد أن كل المبررات التي أقدمها اليوم لن تفغر لي ما كنت أقوم به من تحايل لصالح تلك المؤسسات التي كانت تمتص دم الفقراء»..