محسن الندوي انتشر الإسلام في الأندلس بعد فتحها سنة 92 ه، وأقام فيها المسلمون دولة استمرت ثمانية قرون وأصبحت هذه الدولة في خلافة عبد الرحمن الناصر (300 -350ه/ 912 -961) من أكثر دول العالم علما وتحضرا ومدنية ورقيا وقوة وتقدما، وعاش فيها المسلمون في رغد من العيش، حيث الأرض الخصبة والمياه العذبة والجنان الخضراء والمناخ المعتدل، وقد عبّر عن ذلك أحد شعرائهم فقال: يا أهل أندلس لله دركمُ ماء وظل وأنهار وأشجارُ ما جنة الخلدِ إلا في دياركمُ ولو تخيرتُ هذا كنتُ أختارُ لا تحسبوا في غدِ أن تدخلوا سقرًا فليس تُدخلُ بعد الجنةِ النارُ وكان أبناء الأثرياء في أوربا يتوجهون للدراسة في مدارسها وجامعاتها، وعندما يعودون إلى بلدانهم يفخرون بأنهم تتلمذوا على أيدي علمائها العرب المسلمين، ويتعمدون استعمال كلمات عربية حتى يقال إنهم متعلمون مثقفون. وكان ملوك وأمراء الممالك النصرانية في شمال إسبانيا يستنجدون بحكام الأندلس في صراعاتهم على الحكم، فتتدخل الجيوش الإسلامية وتغيِّر واقعهم السياسي، مقابل حصون وأراضٍ يتنازل عنها من تمت مساعدته، مثلما تفعل أمريكا اليوم. ثم ضعفت دولة المسلمين في الأندلس وتقلصت تدريجيا حتى انحصرت في مملكة غرناطة، ثم سقطت سنة 1492، بتوقيع آخر ملوكها، أبي عبد الله الصغير، معاهدة استسلام مهينة مع الملكين الكاثوليكيين فرديناند وإيزابيلا، ثم قضي على الوجود الإسلامي في الأندلس نهائيًّا، بسبب محاكم التفتيش التي كانت تحرق كل من يثبت أنه ما يزال مسلما. ويُروى أن ألفونسو، ملك الإسبان، قال لرسول ابن عباد إليه: «كيف أترك قوما مجَّانين، تسَمّى كلُّ واحدٍ منهم باسم خلفائهم وملوكهم وأمرائهم، المعتضد والمعتمد والمعتصم والمتوكل والمستعين والمقتدر والأمين والمأمون، وكل واحد منهم لا يَسُلُّ في الذبِّ عن نفسه سيفا ولا يرفع عن رعيته ضيما ولا حيفا، قد أظهروا الفسوق والعصيان واعتكفوا على المغاني والعيدان؟».. ويُروى أن وزيرا دخل على أحد ملوك الطوائف فوجده حزينا مغضبا، فظنَّ أنه غاضب بسبب ما حلَّ بالدويلة المسلمة المجاورة له التي احتلها النصارى، فقتلوا رجالها وسبوا نساءها، فقال له: ليس ذلك ما يغضبني، بل المهندس المكلف ببناء قصري الذي لا يلتزم بأمري. يقول المؤرخ النصراني كوندي: «العرب هووا عندما نسوا فضائلهم التي جاؤوا بها، وأصبحوا على قلب متقلب يميل إلى الخفة والمرح والاسترسال بالشهوات». أما شوقي أبوخليل فيقول: «والحقيقة تقول إن الأندلسيين في أواخر أيامهم ألقوا بأنفسهم في أحضان النعيم وناموا في ظل ظليل من الغنى والحياة العابثة والمجون، وما يرضي الأهواء من ألوان الترف الفاجر، فذهبت أخلاقهم كما ماتت فيهم حمية آبائهم البواسل، الذين كانوا يتدربون على السلاح منذ نعومة أظفارهم ويرسلون إلى الصحراء ليتمرَّسوا على الحياة الخشنة الجافية.. وغدا التهتك والإغراق في المجون واهتمام النساء بمظاهر التبرج والزينة والذهب واللآلئ». الخلافات على الحكم في الأندلس لأن تاريخ الأندلس يشمل أكثر من ثمانمائة سنة كاملة من تاريخ الإسلام، وتحديدا من عام (92ه -711م) إلى (897ه -1492) فمن غير المقبول إذًا ألاَ يعرف المسلمون، بالخصوص تفاصيل فترة شغلت في الزمن أكثر من ثلثي التاريخ الإسلامي. وفي الثاني من يناير 1492، تأتي ذكرى سقوط الدولة الإسلامية في الأندلس. وقد وقف التاريخ أمام هذا كثيرا، حيث سقطت الأندلس، عاصمة الخلافة الإسلامية ومنارة العلم، على الأرض، وطويت صفحة مشرقة من تاريخ المسلمين الذين دخلوها فاتحين ناشرين نور الهداية والإسلام العظيم، نور العلم والرقي والحضارة، بقيادة المجاهدين الصادقين الذين خلدهم التاريخ، على رأسهم طارق بن زياد وموسى بن نصير وغيرهما. ولكن لم تبق الأحوال كما هي، بل تبدلت الأمور وذهب جيل القادة الأوائل الفاتحون الصادقون وجاء بعدهم جيل جديد تهمُّهم مصالحهم الشخصية ومكاسبهم وانتشرت الليالي والموائد والكؤوس في قصورها والترف الفاحش والغدر في ما بينهم والاستمتاع بالملذات. وتفتتت دولة المسلمين في الأندلس إلى دويلات يحكمها أمراء متخاصمون متحاربون، كل يريد القضاء على الآخر، واستغل الأوربيون فرصة انشغال المسلمين في ما بينهم وشجعوا خلافاتهم ثم انقضّوا عليهم الواحد تلو الآخر، فسقطت معاقل المسلمين الواحد تلو الآخر.. حتى أجْلَوا المسلمين نهائيا من بلاد الأندلس. وبعد أن ظلت الدولة الإسلامية في الأندلس بضعا من الزمن متماسكة موحدة، بدأت تُقام ممالك فرنجية في شمال إسبانيا المحررة، مثل ممالك «قشتالة» و»أراغون» و»مملكة ليون» و»الباسك».. وقامت دولة بني ذي النون في «توليدو» (طليطلة) وبدأ صراع مع ملك «سرقسطة»، ابن هود، ولجأ الطرفان يطلبان مساعدة ملوك إسبانيا المسيحيين، وكان هؤلاء يساعدون المسلمين على بعض مقابل الحصول على مال أو قلاع أو أراض أو مدن. واستمر نزاعهما من 1043 إلى 1046، وبعد فترة صراعات بين البيت القشتالي، انتهي بوحدة مملكتي قشتالة وليون تحت صولجان الملك ألفونسو السادس. وبعد أن استتبّ له الأمر، فرض الحصار على «توليدو» في 1084 ولم يقم أحد بمساعدة إخوانهم المسلمين إلا المتوكل بن الأفطس، الذي أرسل جيشا كبيرا لنجدة توليدو، لكنه تعرض لهزيمة ساحقة من الجيش المسيحي. واستمر الحصار 9 شهور إلى أن استبد الجوع بالناس ولم تفلح محاولات المسلمين الوصول إلى تسوية. ولم يرض الفونسو سوى بتسلم المدينة كاملة، وفعلا، تم ذلك في 25 ماي 1085، وتوجه إلى المسجد الكبير الذي حوَّله إلى كاتدرائية وصلى فيه قداس الشكر، وصارت العاصمة لمملكة قشتالة الفرنجية وتم استردادها وتم منح المسلمين كافة الحرية لمغادرة المدينة أو البقاء فيها وحرية التصرف في أملاكهم. ولما اتحدت مملكة ليون وقشتالة مع مملكة أراغون، استطاع الملك فرنانديو والملكة إيزابيلا استرجاع الممالك العربية في الأندلس، الواحدة تلو الأخرى، إلى أن سقطت في أيديهم غرناطة آخر قواعد المسلمين سنة 1492. وكانت الخلافات والنزاعات بين أمراء الممالك الأندلسية زادت وتفاقمت حتى إن كل إمارة كان فيها إما أمير أو قائد أو فقيه طامع في الحكم وتفشت الخيانة، فمن يتولى الحكم يعلم أنه بعد فترة سيظهر له آخر يحاول طرده.