قبل قرابة عشر سنوات، صدرت أوامر توجيهية من عاهل البلاد بتأسيس مراكز تكون في خدمة الراغبين في إنشاء مقاولات كما في خدمة الاستثمار على الصعيدين الجهوي والوطني، واليوم بعد كل هذه السنوات، يطرح سؤال الحصيلة نفسه بإلحاح، خاصة مع صدور تقارير أبرزت جملة من الاختلالات في السير العادي للمراكز، وبروز الحاجة الملحة لإعادة تقييم المسار حتى تستعيد المراكز الجهوية مهمتها الأساسية التي خلقت من أجلها. عشر سنوات مرت على الرسالة الملكية الموجهة إلى الوزير في حكومة التناوب عبد الرحمن اليوسفي حول التدبير اللامركزي للاستثمارات، والتي رسمت الخطوط العريضة لإحداث المراكز الجهوية للاستثمار لجعلها وسيلة من بين الوسائل التي اعتمدتها السلطات العمومية من أجل تشجيع الاستثمار على الصعيدين الوطني والجهوي. الرسالة الملكية أشارت إلى أن دور المراكز الجهوية للاستثمار لا ينحصر في القيام بمهام «الشباك الوحيد»، بل تتعداه إلى أدوار أخرى كتسهيل المعلومات ووضعها رهن إشارة الفاعلين الاقتصاديين والمساهمة في التعريف بالإمكانات الاقتصادية للجهات التي تتمركز فيها. لكن بين سنة 2002 و2012 جرت مياه كثيرة تحت هذا الورش الضخم الذي عقدت عليه آمال كثيرة، واليوم يبدو الحديث عن الحصيلة كلاما منطقيا، خاصة مع «تسريبات» مكتب الدراسات الأمريكي «ماكينزي»، الذي قام بدراسة تشخيصية حدد فيها مكامن الضعف والخلل في سير المراكز، كما وضع تصوراته لإعادة إحياء أدوارها فيما يتعلق بالشباك الأول المخصص لتأسيس المقاولات والشباك الثاني الذي يتكفل بمواكبة الاستثمارات. ويبدو من المفيد قبل الخوض في بعض ملاحظات تقريري المجلس الأعلى ومكتب الدراسات «ماكينزي» إعادة رسم الخطوط العريضة لمهمة المراكز والأدوار التي حددت لها منذ بالبداية. تتكون المراكز الجهوية للاستثمار على مستوى بنيتها الإدارية من شباكين: الأول شباك المساعدة على خلق المقاولات، الذي يشكل المخاطب الوحيد بالنسبة إلى كل شخص يرغب في خلق مقاولة. وتتحدد مهمته في تمكين المستثمرين من وثيقة موحدة تتضمن جميع المعلومات (القانونية والتشريعية) الخاصة بإحداث مقاولة، كما يعمل على إعداد الوثائق الضرورية من خلال التدخل لدى الإدارات المختصة. أما الشباك الثاني فيهم مساعدة المستثمرين، وتتحدد مهمته في تمكين المستثمرين من كل المعلومات الضرورية لإحداث المقاولة على الصعيد الجهوي، وكذلك دراسة طلبات الترخيص وإعداد العقود الإدارية الضرورية لإنجاز مشاريع استثمارية في القطاعات الصناعية والغذائية والمعدنية والسياحية، وإحالتها على المصادقة من طرف والي الجهة إذا كانت قيمة الاستثمار تقل عن 200 مليون درهم أو إعداد مشاريع عقود أو اتفاقيات مع الدولة بالنسبة إلى الاستثمارات التي تتعدى 200 مليون درهم. وتعمل المراكز الجهوية كذلك على التدخل من أجل حل الخلافات بشكل ودي بين المستثمرين والإدارة. المجلس الأعلى أولا.. تقرير مكتب الدراسات «ماكينزي»، الذي قدم خلاصاته لوزارة الداخلية، الوصية على المراكز الجهوية للاستثمار عبر الولاة، سبقه تقرير للمجلس الأعلى للحسابات صدر أوائل السنة الماضية، وفيه تم تضمين ملاحظات القضاة حول سير خمسة مراكز وتحديد اختلالاتها التدبيرية. وركز المجلس الأعلى للحسابات مراقبته على الإطار القانوني لمراكز الاستثمار لكل من جهة الدارالبيضاء الكبرى، وجهة الرباطسلا زمور زعير، وجهة سوس ماسة درعة، والجهة الشرقية، وجهة مراكش تانسيفت الحوز، والإمكانيات المتوفرة لديها، والتنظيم والاستراتيجية، والمراقبة الداخلية، وأيضا، تقييم مهام الشباكين، بالإضافة إلى تدبير الموارد البشرية والصفقات العمومية. وبخصوص مدى تطبيق هذه المراكز للمهام المنوطة بها، وقفت اللجنة على عدد من التطورات المهمة فيما يتعلق بتبسيط الإجراءات، وتقليص الآجال المتعلقة بإنشاء المقاولات، والنظر في ملفات الاستثمار، كما يتبين من خلال نشاط المراكز ما بين سنتي 2002 و2008. ولاحظ التقرير أن جزءا كبيرا من الاختصاصات، التي نصت عليها الرسالة تم تفعيلها وتطبيقها. لكن رغم هذه التطورات تم التأكيد على أنها لم تنجز بالسرعة المطلوبة، ودعا إلى ضرورة إدخال تعديلات تهدف أساسا إلى إشراك فعال لمختلف الإدارات المعنية بإنشاء المقاولة، وكذا بتتبع المشاريع المصادق عليها. ويتعلق الأمر، أيضا، بالعمل على إخراج نص قانوني ينظم عمل اللجنة الجهوية للاستثمار، وكذا النص المتعلق بالنظام الأساسي الخاص بموظفي المراكز الجهوية للاستثمار. وسجل تقرير المجلس، أيضا، غياب سياسة منسجمة على مستوى الاستثمار الجهوي، بالنظر إلى أن أدوار وواجبات مختلف المتدخلين في هذا المجال تبقى غير واضحة بما فيه الكفاية. ويعتبر المجلس في هذا السياق أن تحديد مسؤولية كل متدخل يجب أن يتم بطريقة دقيقة منذ إيداع ملفات الاستثمار، مرورا بالمراقبة، وتتبع إنجاز المشاريع. وحسب التقرير دائما، فباستثناء المركز الجهوي للاستثمار لجهة الدار البيضاء الكبرى، فإن باقي المراكز الجهوية الأربعة الأخرى، التي خضعت للمراقبة، لا تهيء سوى مخططات عمل سنوية. فهي لا تتوفر على مخطط استراتيجي يهدف إلى إنعاش الاستثمار وتطوير البنيات التحتية لاستقبال المستثمرين وتحسين جودة خدمات المراكز الجهوية، وكذا روح المقاولة على المستوى الجهوي، بل إن المخطط الاستراتيجي الوحيد، الذي وضعه المركز الجهوي للاستثمار للدار البيضاء الكبرى 2008-2010 لم يتم تطبيقه، وأعيدت برمجته حرفيا بالنسبة إلى الفترة 2011 - 2009 . وأوصى المجلس المراكز الجهوية بصياغة مخططات استراتيجية بهدف إنعاش الاستثمار، وتطوير بنيات استقبال المستثمرين، وتحسين جودة الخدمات، ودعم روح المقاولة في الجهات. وبدا واضحا، حسب خلاصات قضاة المجلس الأعلى، أن أهداف المراكز الجهوية تبقى غير دقيقة وغير مرقمة وغير متراتبة. فهذه المراكز لا تتوفر على مؤشرات أداء محددة ودقيقة. وتجب الإشارة إلى أن التقييم الملائم لإنجازات المراكز الجهوية لا يمكن أن يتأتى إلا من خلال تحقيق مجموعة من الشروط، منها: تحديد أهداف واضحة بالموازاة مع الموارد البشرية والمادية والتنظيمية الضرورية لتحقيقها وكذا وضع مؤشرات النتائج، التي تسمح بقياس النتائج المحصل عليها بالنظر إلى الأهداف المسطرة. ويعاني نظام المراقبة الداخلية من مجموعة من الثغرات، خاصة على مستوى شباك المساعدة على إنشاء المقاولات، وهو ما يؤدي إلى تزايد المخاطر بوجود أخطاء واختلالات. وفي هذا الإطار، لا يتم احترام أهم مبدأ في المراقبة الداخلية، ألا وهو تقسيم المهام، خاصة في مكاتب ممثلي المكتب المغربي للملكية الصناعية والتجارية وإدارة الضرائب والشخص المكلف بالعلاقة مع المحكمة التجارية، وهكذا فالشخص المكلف بتسيير الأموال هو نفسه الذي ينظم الوثائق المثبتة، ويمكن أن يقوم، أيضا، بعمليات المحاسبة، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى وقوع اختلالات كثيرة (حالة منح الشهادة السلبية في المركز الجهوي للاستثمار بجهة الرباطسلا زمور زعير). تسريبات «ماكينزي» على غرار العديد من الملاحظات، التي أثارها تقرير المجلس الأعلى للحسابات، جاء تقرير مكتب الدراسات «ماكينزي» ليثير عددا من الاختلالات التي تعرفها المراكز الجهوية للاستثمار. التقرير الذي تمت مباشرة العمل فيه منذ أزيد من سنتين ونصف، وتوصلت به وزارة الداخلية شهر فبراير الماضي، دون أن تكشف تفاصيله للرأي العام، بسبب الملاحظات التي تضمنها، والتي تثير تساؤلات حول حصيلة السنوات العشر والمجالات التي فشلت في تحقيق نجاحات فيها. ومع ظهور تسريبات قبل أسبوعين، طرح سؤال عريض حول من يقف وراءها وفي هذا التوقيت بالذات؟ أي في خضم المشاورات التي يقودها حزب العدالة والتنمية لتشكيل الحكومة، ثم لماذا تم اختيار فقرات لنشرها دون نشر التقرير بأكمله؟ وعلى العموم، فتقرير «ماكينزي»، الذي أوضح أن المراكز الجهوية للاستثمار كانت وسيلة فعالة لتأسيس المقاولات بفضل النشاط والحيوية التي يتمتع بها الأشخاص العاملون في هذه المراكز والسير الجيد للشباك الأول الذي يسهل الإجراءات الإدارية أمام المقاولات الجديدة، أشار إلى أن المتاعب تبدأ في المرحلة الثانية، أي المرور إلى الشباك الثاني، الذي لا يوفر جميع الخدمات للمستفسرين، مثل الدعم والمشورة في مجال الموارد البشرية والتمويل، بالإضافة إلى التنسيق مع الموردين والشركاء. التقرير أثار أيضا معيقات ترتبط بالعقار، وبالتحديد مسألة التأخير، الذي يطال تسليم تراخيص التأسيس. وفي هذا الصدد، يشير تقرير حول ممارسة الأعمال لسنة 2012 إلى أن المغرب بذل مجهودات جبارة للرفع من وتيرة تسليم هذه الرخص مقارنة بالسنة الماضية، لكن رغم ذلك، لازال هناك الكثير يجب القيام به في هذا الصدد. كما أن هناك عائقا آخر يتمثل في نقص الوسائل المادية والبشرية، مما يؤدي إلى غياب التواصل بين مختلف الإدارات الأخرى المعنية. التقرير أشار أيضا إلى نقطة سوداء تتعلق بكون هذه المراكز لا تتكيف مع خصوصيات كل منطقة على حدة ولا تراهن على القطاعات الأساسية للتنمية المحلية ولا تشجع المشاريع من هذا القبيل، في الوقت الذي تشكل جهتان فقط بالمغرب الاستثناء في هذا المجال (الجهة الشرقية وجهة سوس ماسة). وبمقابل الثغرات التي كشفها التقرير يقترح مكتب الدراسات الأمريكي بعض الحلول التي ستساهم في بعث المراكز وتقوية أدائها. إذ أوضح أن هناك حلولا ملائمة، لكنها تصطدم بصعوبة تطبيقها بين عشية وضحاها، إذ يرى المكتب الأمريكي أنه يلزمنا 5 إلى 10 سنوات لتطبيقها وتغيير الوجه الحالي للمراكز الجهوية للاستثمار. وأول هذه الحلول تحويل مراكز جهوية للاستثمار إلى مراكز جهوية للتنمية الاقتصادية، بهدف الوقوف على المؤهلات والثروات التي تتوفر عليها جهات المملكة. وحسب الدراسة، يجب أن تكون مراكز الاستثمار مسيرة بواسطة مجالس إدارة مكونة من أعضاء تابعين لمختلف الملحقات الإدارية الجهوية (الوالي، ملحقون وزاريون جهويون، رؤساء المجالس الجهوية) بالإضافة إلى ممثلي المجتمع المدني والجمعيات المهنية. ويقترح المكتب إعادة النظر في الإيقاع البطيء للإدارات، عبر خلق مصلحة خاصة بالعقار وتسليم تراخيص التأسيس، وهي المصلحة التي ستكون على اتصال مباشر بالإدارة المعنية. أما فيما يخص نقص الوسائل وكفاءة العاملين، فيقترح المكتب إعادة النظر في الوسائل المعلوماتية المستعملة حاليا، ووضع نظام فعال لتقييم فعالية المستخدمين. وفي خلاصاته أشار تقرير المكتب إلى أن المركز الجهوي للاستثمار بجهة الغرب يظل أكثر المراكز حيوية، إذ أنه الوحيد الذي يسهل المساطر أمام المستثمرين والمقاولين الجدد، وتبقى الخدمات التي يقدمها جيدة على العموم. الأمر ذاته ينطبق على مركز الدار البيضاء نظرا للخدمات التي يقدمها لزبائنه، فهو يوجههم جيدا ويحترم المواعيد المقدمة، مؤكدا أنه رغم أن المركز الجهوي للاستثمار بجهة الدار البيضاء يتموقع ضمن المراكز الأكثر حيوية في المغرب، فإنه يشترك مع البقية فيما يخص التأخير والصعوبات المتعلقة بتسليم تراخيص تأسيس المقاولات. نصيب المركز الجهوي في مراكش من تقييم «ماكينزي» لم يكن مشجعا، إذ رأى خبراء المكتب بأنه يستحق ذيل الترتيب، وأنه يعاني من عدة نقاط سلبية في أغلب الخدمات التي يقدمها.
غياب مخطط استراتيجي وقصور في تتبع مآل الشركات رغم مرور ثمان سنوات على بداية اشتغالها، لا تتوفر العديد من المراكز، التي شملها تقرير المجلس الأعلى، على أي مخطط استراتيجي متعدد السنوات يهدف إلى تشجيع الاستثمار على المستوى الجهوي. وإذا كانت بعض المراكز تنجز مخطط العمل السنوي، فإن هذا الأخير يبقى غير كاف على اعتبار أنه لا يحدد أهدافا واضحة ومرقمة ودقيقة. ويشير التقرير إلى أن العمل في إطار توجه استراتيجي موحد وكذا استثمار التجارب المكتسبة لا يمكن أن يتحقق إلا بتنسيق مع الفاعلين الجدد في ميدان تشجيع وتتبع الاستثمارات على المستوى الوطني، وهم، على سبيل الذكر، الوكالة الوطنية لتنمية الاستثمار والشركة المغربية للهندسة السياحية. ومن مهام المركز الجهوي التشجيع والمساعدة على إنشاء المقاولات. ولهذا وحتى إن كان تتبع المقاولات المنشأة لا يدخل صراحة ضمن المهام المنوطة بالمراكز الجهوية، فمن المهم أن تهتم هذه المراكز بمصير المقاولات، إذ أن الهدف الأسمى هو إدامة المقاولات وليس إنشاؤها فقط. لهذا يتبين أن تتبع هذه المقاولات ومصاحبتها مهم للغاية. وإذا كان الأمر كذلك، فإن الملاحظ أن هذه المراكز الجهوية لا تتوفر على المعطيات المتعلقة بمصير المقاولات، ولا على المعطيات المتعلقة بعدد المقاولات، التي بدأت عمليا نشاطها، وكذا معدل الاستمرار النشيط لها.
صعوبات تقنية ونظام معلوماتي غير فعال استثناء الربط مع المكتب المغربي للملكية الصناعية والتجارية، فإن النظام المعلوماتي للمراكز الجهوية غير متصل بباقي الإدارات المعنية بإنشاء المقاولات، وهذا ما لا يسمح بتبسيط مساطر إنشاء المقاولات ولا بالاستغلال الأمثل للموارد، مما يؤدي بطبيعة الحال إلى الزيادة في أجل إنشاء المقاولات وإلى تكرار تحصيل المعلومات لدى كل الإدارات المعنية. يوصي المجلس السلطات المختصة بأخذ التدابير اللازمة من أجل وضع ربط معلوماتي بين كل الأنظمة المعلوماتية للإدارات المعنية، كما يوصي كذلك بوضع أرقام تعريفية (identifiants) للراغبين في إنشاء المقاولات، والتي طالبت بها المراكز الجهوية من أجل التبسيط وتقليص آجال إنشاء المقاولة. من جهة أخرى، فإن أداء الرسوم والضرائب وكل المصاريف الناتجة عن إنشاء المقاولات بالمراكز الجهوية للاستثمار يجري لدى مختلف ممثلي الإدارات المعنية بعملية إنشاء المقاولة، أو لدى مستخدمين مكلفين بالعلاقة معها، وهذا ما لا يسمح باحترام مبادئ المراقبة الداخلية وتأمين الأموال. ويوصي المجلس بضرورة الإسراع بوضع نظام موحد لأداء الرسوم والضرائب والمصاريف الناتجة عن إنشاء المقاولات بهدف تعزيز التنسيق وتحديد المسؤوليات لكل المتدخلين في عملية استخلاص النفقات.