ينبغي الانتباه إلى أنه لا يكفي أن يخرج الإسلامي والعلماني والماركسي والأمازيغي في حركة احتجاجية واحدة، كحركة عشرين فبراير، ويرفعوا الشعارات نفسها لنطمئن إلى أن اختلاف مرجعياتهم لا يشكل عائقا، فما يقع في مصر وليبيا اليوم يظهر حاجتنا إلى التفكير في مآلات هذه الحركات الاحتجاجية التي يشهدها المغرب، فالشعارت والمطالب التي لم تشكل عائقا أثناء الثورة ستصبح مشكلة حقيقية في مرحلة بناء النظام الجديد، بمعنى أنه إذا كانت المطالب ذات المرجعية الليبرالية وحدت كل هؤلاء في صياغة الدستور الجديد في مصر مثلا، فلأنها تتيح لكل منهم الفرصة للتعامل مع الوضع الجديد بشكل استراتيجي وليس بشكل مبدئي، فالإسلامي إذا كان يقاسم الماركسي -مثلا- مناهضة النظام الفاسد، فإنه يختلف معه في البدائل، لأنه سوف لن يتخلى عن كون «تطبيق الشريعة» يعتبر حلا نهائيا، وفق الحتمية العقائدية المعروفة بعقيدة الاستخلاف في الأرض، والماركسي نفسه ساهم هو أيضا في مناهضة الأنظمة الفاسدة، لكنه يؤمن بأن الحل لن يكون دينيا، وبالتالي فإذا كان ميدان التحرير قد جمع كل المذاهب والحساسيات فإنه سيشهد تطاحناتها، خصوصا وأن تاريخ الصراع الإيديولوجي في العالم العربي أثبت قدرة مكونات المشهد السياسي على تغيير البندقية من كتف إلى كتف، ومقدرة كبيرة على تبرير المواقف حتى عندما تكون مناقضة للمرجعية. تقودنا هذه الملاحظات إلى إعادة ما أشرنا إليه، وهو أن الثورات العربية هي حدث متعدد، وتعدده خفي يستعصي التقاطه لأول وهلة نظرا إلى الطابع الميكانيكي الذي حكم انطلاق هذه الثورات حيث التتالي والتكرار، فكانت تونس وتبعتها «ميكانيكيا» مصر ثم ليبيا واليمن فسوريا، والقائمة مفتوحة، فهذا الطابع الميكانيكي يمكر بنا عندما لا ننظر إلى هذه الثورات على أنها حدث متعدد في المنطلقات وفي المآلات، مع إثارة نقطة مهمة بصدد مآلات الثورات العربية المنجزة حتى الآن، وهي أن مرحلة بناء نظام يلملم شتات الشعارات المرفوعة أصعب من مرحلة هدم النظام. أحد أوجه الطبيعة المتعددة لهذه الثورات يمكن الوقوف عنده إذا ما قارنا ما يجري الآن في ليبيا بما جرى في تونس، صحيح أن النظامين معا مستبدان وقمعيان، لكن القذافي ليس هو بنعلي وهذا ليس هو صالح وحسني مبارك ليس هو الأسد، فصحيح أن بنعلي هرب، لكنه خلف دولة قائمة الذات، خلف شعبا مثقفا وشبابا متعلما، شبابا يمارس رقابة حقيقية على الحياة العامة، لكن في ليبيا، المجتمع القبلي بقي هو نفسه، الأعراف والثقافة التقليدية ظلت هي نفسها، وأربعون سنة من عمر نظام القذافي لم تغير من طبيعة هذا المجتمع، فالقذافي راهن ولا يزال على هذه الطبيعة القبلية، لذلك لم يعلم شعبه، بل استورد العقول والسواعد الأجنبية، لم ينمِّ عقول أبناء بلده ولم يرسخ فيهم قيمة العمل، بل فضل المهندس الروسي والطبيب الأوكراني والسائق الهندي والبناء المصري على أن يكون هناك أطباء ومهندسون ومتخصصون في باقي المهن من أبناء الشعب الليبي، والدليل على صحة هذا التحليل هو أن ثوار ليبيا، الآن، يرفعون علما ينتمي إلى ما قبل نظام القذافي، وكأنهم سيبنون دولة وطنية بعد نجاح الثورة من الصفر، وهذا ما لم نجده في تونس. وهذا الاختلاف والتعدد في الثورات العربية سيتسنى لنا استخلاصه بوضوح بعد مدة زمنية من الآن، لأننا إزاء دول عربية مختلفة.. اختلاف يمكن رده إلى سببين على الأقل، الأول عام وهو أن عقود ما بعد الاستقلال وشكل النظام السياسي الذي تبنته كل دولة، أعطى لكل دولة عربية قدرا مهما من الخصوصية قد لا يظهر عند مقارنة مصر بتونس، لننتبه -مثلا- إلى أن الرئيسين بنعلي ومبارك ألقيا ثلاثة خطابات ما بين مرحلة اندلاع الثورة، حيث الوعيد والتهديد والاستخفاف، ومرحلة قرب نهاية الثورة، حيث العواطف والترغيب والوعد، ولكن يظهر الفرق شاسعا عند مقارنة ليبيا بمصر، وتونس باليمن، والجزائر بسوريا، وبالتالي إذا كان الشعبان المصري والتونسي قد أسقطا نظاميهما بالطريقة ذاتها نظرا إلى التشابه في مسارات ما بعد الاستقلال، فإن اختلاف مسار ليبيا واليمن وسوريا وغيرها من الدول العربية بعد الاستقلال سيؤدي إلى عرقلة الطابع الميكانيكي لهذه الثورات، وبالتالي ستظهر هذه الطبيعة التعددية خصوصا في المآلات، وسيعطي لبعض الأنظمة القائمة، خصوصا في المغرب والأردن والسودان والبحرين، فرصا لامتصاص طابع التكرار لمبادرات استباقية. إن صياغة كل شعب عربي لديمقراطيته الخاصة أمر ملح، ومن الخطأ استنساخ النماذج وتكرارها، وهنا تنبغي الاستفادة من دروس الماضي، أي دروس فشل كل المشاريع التي رامت تنميط البدائل والأنظمة عقب الاستقلال مثل الوحدة الفاشلة بين العراق وسوريا، مصر وسوريا، ليبيا ومصر. صحيح أن ما يفرق الناصرية والبعثية أكثر مما يجمعهما، لكن ينبغي الإنصات للتعدد والاختلاف الذي يطبع كل شعب ويميزه عن الآخر، بل ويطبع بنية الشعب الواحد، بدليل أن مشكلة الأمازيغ في المغرب والجزائر ليست هي مشكلة الأكراد في العراق وسوريا، ومشكلة الشيعة في إمارات الخليج هي مشكلة لا تعني دول شمال إفريقيا، ومشكلة علاقة المسلمين بالأقباط في مصر ليست هي مشكلة علاقة الزنوج بالبيض في موريتانيا، وبالتالي من المفيد جدا أن يصوغ كل شعب عربي نموذجه، وما يضمن إمكانية ذلك هو وجود نماذج متعددة للديمقراطية على أرض الواقع، نراها بوضوح من خلال الثورة المعلوماتية التي رفعت عنا ما يسميه كيغكارد «حجاب الجهل»، فاليوم لم يعد بإمكان الشعوب العربية الرضى بشعارات الخصوصية المولدة لكل أشكال الاستبداد، بل يمكنها أن تحرص على الخصوصية التي ترسخ الحريات والاختلاف؛ فإذا استطاع الشعب المصري التوافق على دستوره الجديد، فسيمكنه تدبير الاختلاف الموجود بين مختلف حساسياته الدينية والمذهبية والسياسية والعرقية من داخل نموذجه الخاص به.