يحز في نفسي كثيرا أن يُحَمِّل مثقفونا وزر ضعف القراءة للأفراد فقط، سواء بسبب الأمية أو لأنها ليست عادة بين المتعلمين. وقلما يشار إلى أن السبب في تدني القراءة يكمن كذلك في عدم وجود إنتاج متنوع للكتاب المغربي؛ فإذا تخيلنا للحظة أن نسبة الأمية في بلادنا لا تتعدى، مثلا، ثلاثة في المائة، فما الكتب التي يمكن للمغاربة، بتعدد لغاتهم وثقافتهم وانتماءاتهم، أن يقرؤوها في فترات مختلفة من حياتهم؟ وإذا كنا نأمل أن تكون القراءة عادة يومية للفرد، بغض النظر عن الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها، فما الذي يمكن للسائق والبائع والجزار وغيرهم أن يقرؤوه غير الكتب الأكاديمية ومراجع ذوي الاختصاص؟ فالذي يجعل نسبة القراءة مستمرة ومتزايدة في مجتمع ما هو القراءة الشعبية التي تداوم عليها العامة من الناس، أطفالا وشيوخا ونساء ومراهقين، وليست القراءة التي تنتشر بين طبقة الطلاب والدارسين فقط. ولا يجد المتعلمون في بلدنا هم كذلك كتبا يداومون على قراءتها بعيدا عن اختصاصهم المهني أو الأكاديمي، لأنه ليس من المفروض على الشخص إذا أراد أن يقرأ رواية، مثلا، أن تكون بالضرورة معقدة، تدور في فلك ما هو فلسفي ونفسي مثل تلك التي كتبها «وليم فوكنر»، أو يضطر إلى قراءة حكايات مترجمة تجري أحداثها داخل أماكن في أمريكا الجنوبية أو في الريف الفرنسي أو الإنجليزي، لأنها أحيانا لا تتلاءم مع ثقافته وخياله وذوقه الذي ليس عيبا أن يكون مغرقا في المحلية؛ فالقراءة التي يعشقها الناس، قبل أن تكون ناقلة للمعرفة، يجب أن تكون سفرا ساحرا ومتعة مسلية. وإذا اعتبرنا أن الكثير من أمهاتنا وأطفالنا وجداتنا يحبون القراءة، كما هو الحال في الدول التي يصل عدد ساعات قراءة الفرد فيها إلى مائتي ساعة سنويا، ويرغبون في قراءة القصص المسلية، سنجد أن حكاياتنا المغربية المكتوبة قليلة جدا، وأن الكُتاب المغاربة الجدد، الذين يمكنهم إثراء سوق الحكايات المغربية ويرغبون في نشرها، لا يشجعهم سوء التدبير في عالم النشر ويتوارون خلف الإهمال بسبب البيروقراطية والحيف والتمييز وانعدام الديمقراطية الثقافية في بلادنا والتي تعرقل نشر الإبداعات المختلفة لأدباء موهوبين جدا، تشيخ إبداعاتهم وتبقى مجهولة بسبب تحكّم ثلة من الناس ومن الآراء في المشهد الثقافي المغربي عموما. والمتتبع لسوق الكتب والقراءة في أمريكا أو بريطانيا سيجد، مثلا، أن السير الذاتية للمشاهير هي التي تتصدر لائحة الكتب الأكثر مبيعا، لأن هذا النوع من الكتابات يلائم ذوق شريحة واسعة من القراء الذين يرغبون في التعرف، عن كثب، على حياة وتجارب ونجاح الآخرين أو نجدهم يتهافتون على اقتناء قصص إنسانية بسيطة لأشخاص يشبهونهم، قصص تحكي، بصوت مرتفع، حياة الناس الخفية بطريقة واضحة ومباشرة. لكن هذه الأنواع من الكتب نادرا ما نجدها في الإنتاج الأدبي المغربي، لأن أغلب المشتغلين في حقل الكتابة يرون أن الأدب التجريبي الذي يمكنه أن يحصل على الجوائز هو الجدير بالاشتغال عليه دون سواه، مثلما نلاحظ كذلك عدم وجود حركة أدبية دائمة ونشطة تواكب بالترجمة الجديدَ من إصدارات سوق الكتب العالمية. والطريف أنني اكتشفت، مؤخرا، شكلا غريبا وفريدا من نوعه من أوجه ضعف القراءة، والذي يتفشى بين الكثير من المثقفين أنفسهم وبين الكتاب والشعراء وغيرهم من المبدعين الذين قلما يقرؤون ويشجعون أو يتابعون إنتاج بعضهم بالتعليق والحوار والنقاش، وربما يظن هؤلاء أن الكتابة الإبداعية فرض كفاية، إذا قام بها كاتب نرجسي واحد ناب فيها عن نرجسية الكتاب الآخرين.