علاّوة حاجي، مدوّن إلكتروني، وصحفي وقاص، صدر له في المدة الأخيرة "ست عيون في العتمة "، مجموعة قصصية أولى، عن "منشورات البيت " بالجزائر. وقد أبانت عن قدرة سردية متميزة، في حاجة إلى إعادة اكتشافها "ورقيا"، بعد تجربته "الالكترونية " الأولى. وانطلاقا من النص الأول للمجموعة وهو مشروع رواية متميزة، كان السؤال الأول في هذا الحوار: هذه ليست قصة"، أولى نصوص مجموعة "ستُّ عيون في العتمة".. هل جاء العنوان استفزازيا، مع أنك وضعت على الغلاف كلمة "قصص"؟ بدايةً، كنتُ أفضّل أن تكون تلك العبارة، أي "هذه ليست قصّة"، عنوانا فرعيا للمجموعة، لجعل هذه الأخيرة مفتوحة على قراءات متعدّدة، بيد أن الناشر فضّل عبارة "قصص " لأنها صدرت ضمن سلسلة في القصة القصيرة. وهذا العنوان بالطبع لا يعني الجنس الأدبي الذي تنضوي تحته هذه النصوص فحسب، بل يريد فرغم أن هذه النصوص تتشبّث بكثير من عناصر القصّة الكلاسيكية المعروفة، إلا أنها تخرج المألوف في الكتابة القصصية، من حيث الحبكة والأسلوب والتعامل مع الزمن. بعد قراءة النص الأوّل الطويل؛ يتبيّن فعلا أن "هذه ليست قصّة"، بل "رواية مجهضة". إلى أي مدى ترى الحكم صحيحا؟ سمعتُ هذا الرأي من كثيرين رأوا أن "هذه ليست قصّة" ليست قصّة قصيرة بالفعل، بل "مشروع رواية لم يكتمل "، بالنظر لتوفّرها على مجموعة من عناصر الكتابة الروائية. ولكن اسمح لي بأن اختلف مع هذا الرأي، فإن كان عدد الصفحات ليس معيارا وحيدا وضروريا لتصنيف أي عمل أدبي ضمن جنس الرواية؛ فلن يكون هناك مانع من إطلاق صفة الرواية على هذا العمل، خصوصا إذا ما وضعنا في الحسبان وجود جنس أدبي قائم بذاته هو الرواية القصيرة أو "النوفيللا ". رُغم ذلك؛ فسأعترف لك بأنني بدأت كتابة هذا النص منذ سنتين على أساس أنه رواية، ولكن حين وجدتُ أنني غير قادر على إضافة أشياء جديدة له؛ فضّلت أن أضع نقطة النهاية، حتى وإن كانت هذه الأخيرة مفتوحة. ويبدو أنني بنقطة النهاية، تلك، أضعتُ لقب روائي التي تحظى ببريق أكبر اليوم مقارنة مع قاص أو شاعر، لكن ذلك لا يشعرني بالندم لأنني أتطلّع لما هو آت. هل كانت هذه المجموعة القصصية بمثابة عتبة اقتحام تجربة رواية طويلة.. بمعنى هل ستتوقف لاحقا عن كتابة القصة القصيرة مثلما فعل الكثير من أسلافك الساردين؟ القصّة القصيرة هي عالمي المفضّل، قراءةً وكتابةً، ولكن كتابة رواية هي مشروعي الحالي، دون أن يعني ذلك طبعا أن هذه الباكورة الأدبية كانت تمرينا أو عملية تسخين عضلات لكتابة الرواية. ولن أكون صادقا معك إن لم أخبرك بأن هاجس القلق من الابتعاد عن كتابة القصة القصيرة يراودني مع التفرّغ لكتابة الرواية، فأنا أشتغل حاليا على كتابة نصين روائيين، أحدهما رواية للأطفال.. سأعطيهما الوقت الكافي حتّى يريا النور، وسأكتب وأنشر نصوصا قصيرة جديدة في هذه الفترة. معظم قصص مجموعة "ستُّ عيون في العتمة"، نُشرت أوّلا في مدونتك الأدبية.. ألا ترى أن المطبوع أعطى للنصوص ذاتها أبعادا أخرى؟ النص الأدبي هو نفسه، سواء نُشر في الشبكة العنكبوتية أو بين دفّتي كتاب من حبر وورق. القارئ وسياقات القراءة هو ما يختلف بين الحالتين. وقد لمستُ ذلك بشكل جليّ مع هذه النصوص، فكثير من الأصدقاء كانوا متلهّفين لرؤية الكتاب وقراءة القصص رغم أنهم قرؤوها من قبل في المدوّنة الالكترونية.. للورق دائما غوايته، وحداثة تعاملنا، ربّما، مع التكنولوجيات يجعلنا لا نتلمّس تلك الحميمية التي يمنحنا إياها الكتاب. أعتقد أن أهمّ ما في هذه التجربة هو تحويل تلك النصوص من عالمها الافتراضي إلى شيء ملموس قد يصادفك في مكتبة أو جامعة أو أي مكان آخر. في السياق ذاته.. أنت على سبيل المثال لم تنل اعتراف البعض إلا مع هذا الإصدار الورقي، ولم تحصل على ذلك مع القارئ الرقمي.. هل مازالت سلطة الورق قائمة لا تزعزعها أي ثورة رقمية أو ما بعد رقمية؟ سُلطة الورق مازالت قائمة وستبقى كذلك. لذلك فإن النشر الورقي يعني التوجّه إلى قارئ آخر مختلف، ففي مجتمع لا يستخدم الانترنت كثيرا، أو يستخدمها في الغالب لأغراض أخرى غير القراءة، يمثّل القارئ الورقي الطرف الأهم في المعادلة.. كثيرٌ من الكتاب والمثقّفين الجزائريين، أيضا، لا يحسنون استخدام الانترنت، وهذا ما سيجعل هذا الإصدار بالنسبة لهم بمثابة اكتشاف. هناك أمرٌ آخر مرتبط بطبيعة القارئ الالكتروني الذي يوصف ب"القارئ العجول"، فلو كنتَ قبالة كمبيوتر مزوّد بالانترنت؛ فإنّك ستفضّل، على الأرجح، لعبة الكترونية أو دردشة عبر المسنجر مع الأصدقاء، أو تحميل بعض البرامج والاطلاع بسرعة على صفحات ويب كثيرة على قراءة قصص أو قصائد أو روايات، بينما لو كنتَ مستلقيا على الكنبة وبين يديك كتاب فستقرؤه بتمعّن وربمّا تعيد قراءته. وهذا بالنسبة لي يعني أن معظم الذين اطّلعوا على كتاباتي من خلال المدوّنة لم يقرؤوها فعلا، بل ألقوا عليها نظرة سريعة فحسب. ظهر في السنين الأخيرة نفر من الناس يطلق عليهم "كتّاب الانترنيت"، ويصنف الكثير منهم ككتّاب "من الدرجة الثانية"، هل أنت مع هذا الرأي؟ دعني أشير هنا إلى وجود نظرة نمطية للنصوص الأدبية التي تُنشر على الانترنت، ترى أنها كتابةٌ من الدرجة الثانية، ولا ترقى للنصوص التي نقرؤها على الورق. سبب هذه النظرة هو ازدحام النت بكم هائل من النصوص الأدبية، ما يعني بالضرورة وجود كتابات قد يصحّ وصفها ب"الرديئة"، فحين تكون لديك مدوّنة إلكترونية مثلا؛ سيكون فإمكانك نشر كل ما تكتبه دون أن يمرّ على رقيب أو محرّر أدبي ينتقي السمين من الغثّ ويقرّر نشر ما يصلحُ للنشر. لكن تلك النظرة ليس صائبة تماما ولا ينبغي تعميمها، بدليل وجود مدوّنات أدبية ذات مستوى رفيع، وفي مصر مثلا حقّقت ثلاث مدوّنات نسائية تحوّلت لكتب ورقية أعلى المبيعات في معرض القاهرة الدولي للكتاب العام الماضي. وبالنسبة لي؛ فإن النشر الالكتروني لم يكن هروبا من النشر الورقي، إذ نشرت بعض تلك القصص في صحف جزائرية وفي مجلات عربية مرموقة، ولكنّني كنت أحبُّ أن أنشر قصصي بعد ثوان من كتابتها. ألا ترى تأثير ثقافة الإشهار "العولمية" واضحا في بعض المقاطع الساخرة؟ "كيف تصفّق بحرارة دون أن تتورم يداك"، مثلا؟ ثقافة الإشهار ترتكز على فكرة التسويق بالدرجة الأولى، وعنوان النصّ هو الذي يسوّق العمل الأدبي. لذلك فإن من المفيد توظيف هذا الجانب في لفت انتباه القارئ.. النصُّ الذي أشرت إليه وبقيّة النصوص تنتمي لهذا العصر ولهذا المكان؛ لذا ستجد فيها كثيرا من عناصرهما، هناك أشخاص نعرفهم جيّدا ونقابلهم يوميا في الشارع، وأدوات ووسائل عصرية نستخدمها بشكل يومي. أعتقد أن هذا سيُعطي للنص قيمة مضافة تجعله ليس مجرّد تنظير سردي وطوباوي أو رصّ شعري للكلمات، وإنّما نصّا حيا يمسك الأدبية بيد، والحياة بيد أخرى. في هذا النص مثلا أطرح تساؤلا هاما يتعلّق بقضية الساعة، لأن معظم الناس اليوم يفكّرون في الطريقة المثلى للتصفيق "بحرارة وصدق" دون أن يكون لذلك كثير من الآثار الجانبية، لا أعرف إن قرأت الخبر الذي نقلته صحيفة وطنية يتعلّق بإمام انحنى ليقبّل يد وزير الشؤون الدينية أم لا؟.. إن تصرّف الإمام، الذي يُفترض أنه يغرس قيم الكرامة وعزة النفس عند الناس، يؤكّد أن "الشيتة" أصبحت ثقافة وسلوكا أخذا يتجذّران يوما بعد يوم في الممارسة اليومية. على ذكر السخرية، تبدو تلك أهم ميزات الكتابة عندك. هل تُصنّف نفسك ككاتب ساخر مع الصعوبة البالغة للإبداع في هذا الباب؟ لا أصنّف نفسي، وأرجو ألا يصنّفني أحدهم، ككاتب ساخر، لأنني لا أريد أن أُحشر في قالب ما، أو أُصبغ بلون معيّن. رغم ذلك؛ فإنني أفضّل التهكّم الذي أجد فيه الطريقة الأنسب لتعرية الواقع، دون أن تكون إثارة رغبة القارئ في الضحك هدفا مسطّرا، وإنما نتيجة قد تتحقّق أو لا تتحقّق، عبر ما يُسمّى "السخرية السوداء". إحدى الإعلاميات والروائيات قالت لي إنها كانت أمام أوّل عمل جزائري استطاع أن يمسك بذلك الخيط الرفيع من السخرية من البداية إلى النهاية، مع الأخذ بعين الاعتبار صعوبة ذلك. وفي المقابل؛ انتقدني البعض بسبب ما قالوا إنه إفراط في السخرية. ومن جهتي؛ لا أستطيع أن أدخل في تفاصيل ذلك، ولكّنه، ربما أسلوب يرتبط بطبيعة الكاتب ذاته، وطريقة رؤيته للأشياء. ما السر في تتواتر شخصية "المعلم" في مختلف نصوصك؟ آه. أعتقد أن موضوع المعلّم سيضلّ في رأسي لوقت طويل ولن أتخلّص منه بسهولة، بالنظر إلى ملاحظاتي المتعدّدة حول كثير مما يحدث في المدرسة الجزائرية من عنف متبادل، وقمع للتلميذ. في قصة "فكرة غبية" ثمة المعلمة التي تسخر من تلميذتها التي تمنّت أن تصبح طبيبة في المستقبل، وفي "هذه ليست قصة" تجد أستاذ الرياضيات الذي يعاقب تلميذه بطرق غير مقبولة، فقط لأن هذا الأخير لا يعرف إجراء العمليات الحسابية. هذا القمع وهذه السلوكات هي بمثابة جرائم تُرتكب في حقّ جيل بأكمله. استعمال ضمير المتكلم يوحي للمتلقي بأن النص يقترب من السيرة الذاتية، فإلى أي مدى استلهمت سيرتك الشخصية في هذه النصوص؟ عادة ما يميل القرّاء، العاديون والنقّاد، خصوصا إذا كانوا يعرفون الكاتب، إلى ربط نصوصه بحياته الشخصية، فيُقال في الغالب إنّه كتب سيرة ذاتية، أو أنه لم يستطع التخلّص من ذاته وخلق أمكنة وأحداث وشخصيّات مستقلّة عنها. في هذه المجموعة، وخصوصا في النص الأوّل، استمعتُ إلى آراء في هذا الشأن، وقد يكون لاستخدام الرواي ضمير المتكلّم دورٌ في تعزيز هذا الاعتقاد. وهي آراء لا أوافق عليها، ليس لأنني ضدّ ولكن ضدّ هذه النظرة الضيّقة للعمل الأدبي. رُغم ذلك أعتقد أن الكاتب، أي كاتب في أي مكان وزمان، يغرف من خابية الذاكرة التي تمثّل الواقع، تماما كما يغرف من خابية الخيال. يلاحظ، ميلك إلى البناء الكلاسيكي للقصة القصيرة، وحتى القصة القصيرة جدا، ما السر في هذا الخيار الجمالي؟ ثمّة في الغالب حبكة وانتصار للسّرد على حساب الشعرية. ولا شكّ أنك تلاحظ معي "الأزمة" التي أنتجها زحف الشعرية على النصوص السردية، فغاب الحكي عن كثير من النصوص التي تسمّى رواية اعتباطا، وباتت القصص القصيرة محض خواطر تفتقر للنضج الفني. لذلك؛ ستجد في هذه المجموعة عبر نصوصها التسع والثلاثين رجوعا بأدوات عصرية ونفس حداثي، وهو نموذج منتشر بكثرة في الغرب وكذا في المشرق العربي، لكنّه أقلّ تواجدا في الجزائر. كما فضّلت الابتعاد عن الوصف حتى لا أقيّد القارئ وأجعل صوره الذهنية تشتغل أكثر. وماذا عن القصص القصيرة جدا التي تمتلئ بها هذه المجموعة الأولى، هل السر في أنها أصلا كتابة إلكترونية قبل أن تتحول إلى ورقية؟ كتابة القصّة القصيرة جدّا ارتبطت بالمدوّنة الالكترونية، حيث راهنت على تقديم مادة أدبية قصيرة تتماشى والقراءة الالكترونية. وهي تجربة مثيرة بالفعل، وقد علّمتني الاقتصاد اللغوي والتخلّص من الزوائد السردية، وأعتقد أنها ساهمت في بلورة رؤيتي لمفهوم القصة القصيرة وكذا كتابة. ليس هناك أدباء كبار في العالم لأنهم كتبوا كثيرا، وإنما لأنهم كتبوا جيّدا، أي أنهم قدّموا إضافة للإنسانية.