1 - بداية جديدة بما أن العديد من الأسئلة التي طرحها العرب منذ عصر النهضة لا يزال يفرض نفسه على الواقع العربي، فإن الكثير من القضايا التي أملاها الكفاح العربي من أجل الاستقلال ما فتئ يفرض نفسه بإلحاح على الإنسان العربي. ورغم مرور حوالي نصف قرن على حصول الأقطار العربية على استقلالاتها السياسية، فإن كل القضايا التي حملتها الحركة الوطنية وحركة التحرر الوطني العربية ظلت معلقة لأن الأنظمة المتعاقبة لم تعمل على إيجاد الحلول الملائمة لكل المشاكل البنيوية التي عانى منها المجتمع العربي، بل على العكس من ذلك عملت على تفاقمها وتوليد مشاكل أخرى جديدة بتجميد التفكير ومحاصرة العمل الثقافي والسياسي الذي يمكنه التصدي لتلك المعضلات والقضايا. لكل هذه الاعتبارات، نرى أن الربيع العربي الذي دشن في تونس هو بمثابة بداية جديدة لإعادة التفكير في كل القضايا المؤجلة منذ أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أو الأسئلة المعلقة، منذ حصول الأقطار العربية على استقلالاتها بعد الحرب الثانية. 2 - من الاستعمار إلى الفساد تشترك هاتان اللحظتان الكبيرتان في تاريخ العرب الحديث في كونهما معا تنهضان على ركيزة طبيعة ووظيفة محددتين: أ - الطبيعة: حركة شعبية وطنية ذات قضية واحدة؛ ب - الوظيفة: بناء مجتمع عربي جديد. لقد أفلحت الحركة الشعبية الوطنية العربية في طرد الاستعمار، غير أن تلك الاستقلالات لم تؤد إلا إلى ظهور أنظمة يجمعها الاستبداد، وإن تجلى من خلال صور عسكرتارية أو مخابراتية أو مخزنية، رغم الشعارات الوطنية أو الثورية أو الديمقراطية التي كانت ترفعها، فكان ما يتعارف عليه في القاموس السياسي العربي ب«سنوات الرصاص» هو العنوان الأكبر لحقبة ما بعد الاستقلال. جاء الربيع العربي بعد حوالي نصف قرن من الاستقلال ليشكل اللحظة نفسها التي عاشها الإنسان العربي وهو يناضل من أجله، فكان تعبيرا عن حركة شعبية وطنية موحدة يحركها هاجس واحد: مواجهة الاستبداد والفساد وبناء مجتمع جديد. 3 - البعد الثقافي للتحول الاجتماعي غير أن بناء المجتمع الجديد، مهما كان الشعار المطروح بصدده: الاستقلال أو محاربة الفساد، لا يمكنه إلا أن يتأسس على رؤية ثقافية ومعرفية محددة. ومعنى ذلك، من جهة أولى، أن مفهوم الاستقلال كان يختزل شبكة دلالية مركزية من المفاهيم التي تدور في فلكه: مثل مفهوم الوطن، والحرية. وكل مفهوم من هذين المفهومين سيتضمن بدوره شبكات دلالية فرعية يتعلق كل منها بالمجالات الحيوية في السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة. ومن جهة ثانية، سنجد أن مفهوم «محاربة الفساد» من خلال الربيع العربي سيستدعي بدوره الشبكات الدلالية المركزية والفرعية نفسها التي نجدها في اللحظة الأولى لكن بمضامين جديدة ومتطورة، تستجيب للسياقات الجديدة (القرن الواحد والعشرون) التي تفرض نفسها. نسجل من خلال تأملنا اللحظتين الكبيرتين في علاقتهما بالرؤية الثقافية المعرفية أن مرحلة النضال ضد الاستعمار كانت أخصب على مستوى العطاء الثقافي لعوامل كثيرة، لعل أهمها كان تطلع الفكر العربي إلى تجديد نفسه وأسئلته بعد قرون طويلة من الجمود والعزلة عن العالم، إلى جانب انكبابه على متطلبات العصر الذي عاش فيه وإكراهاته؛ أما اللحظة الثانية فقد وجدت نفسها أمام تراكم من الرؤيات والتصورات القديمة منذ عصر النهضة، والحديثة مع الاستقلال، لكن فشل مختلف المشروعات الإسلامية والقومية في تحقيق الوحدة وضمان المساواة والرفاه، بسبب انحراف الأنظمة عن أي مسار وطني وديمقراطي، وانخراطها في اتباع سياسة القمع، وخضوعها لمراغمات السياسة الخارجية، أدى إلى بروز التطرف. وكان ذلك إيذانا بالوصول إلى الطريق المسدود، وانغلاق أي آفاق للتحول، أمام تحكم الأنظمة وعزلة الجماهير وضعف النخب السياسية والثقافية. يبدو لنا ما قلناه عن اللحظة الثانية بجلاء عندما نقارن بين اللحظتين على مستوى الرؤية الثقافية المعرفية التي نتحدث عنها، حيث نعاين كون اللحظة الأولى قدمت لنا مفهوم المثقف الزعيم الذي يساهم في التأطير والتنظير، في الوقت الذي نجد فيه اللحظة الثانية عبارة عن حركة وطنية شعبية بلا زعيم ولا مثقف بالمعنى التقليدي للكلمتين. فهل معنى ذلك أن الربيع العربي لم يتأسس على رؤية ثقافية معرفية لبناء المجتمع العربي الجديد؟