يتضح منذ البدء، منذ العتبة الأولى، الميل التجريبي للشاعر في بناء قصيدة مغايرة، تقتحم مدلولات مطروقة بنغمة جديدة، وبدوال مختلفة، إذ لا علاقة تربط الفراشة الطبيعية، في العنوان، بالهيدروجين، ذاك الغاز المعروف الذي تلف منه القنابل العنقودية والنووية القاتلة. لذلك فالفراشة، المتحدث عنها هنا، ليست هي الفراشة التي نعرف، كما أن الهيدروجين ليس هو الغاز المعروف الذي اشرنا إليه سلفا. إن تأويل المركب الدلالي الذي تحيل عليه الحملة الإسمية هو الذي يمكن أن يسوي المعنى المتأبي في العنونة، وهو الذي يمكن أن يقود المرء إلى تتبع آثاره في داخل النصوص. فالفراشة معروفة تداوليا باللطافة، والجمالية والخفة، والإثارة. لكن حينما يرتبط بها مؤشر دلالي يدل على الهيدروجين فإن الفراشة تصبح محيلا دلاليا على نقيض مدلولها. فهي هنا كائن يحمل في سحره الظاهري الدمار للعالم، ومع ذلك يبقى، دون ربطه بالنصوص، غير ذي أهمية بالغة. لكن مؤشراته تقترح هذه الوجهة الممكنة في القراءة الموضوعية للنص. يقول الشاعر: «من شعري طارت فراشات/ لتزعج الجندي/ فراشات تلسع وتذمي/ وحين أكون قريبا منها تزداد ضراوة» ص 29. وينبثق هذا الحزن عن مصدرين، الأول داخلي يصدر عن الذات بخيباتها وإحباطاتها الكثيرة، يقول الشاعر: «كان علي أن أكون حاضرا/ أثناء الاستقبال/ أن أحتمل كل تلك القسوة/ أنا الذي لم أقل يوما لجدول:/ اصمت» ص 36. وأما الثاني فهو خارجي يأتي من جهات العالم الأربع، حيث تهب أخبار الحروب والقتل والسفك والدماء والظلم والدمار وغيرها من قيم الجهالة والضلالة التي يعددها الشاعر بكثير من الأسى والحسرة، راثيا حال الإنسان الذي يقود نفسه صوب الهاوية بدوسه على كل ما هو إنساني وما هو نبيل، يقول مبارك وساط في مجموعته: «أنا على ضفة نهر/ السماء ملبدة/ بزعيق صافرات الإنذار/ في أحد الكواكب/ أسمع أيضا قرعا/ في عظامي/فكأنها طبول/ دقيقة» ص 45، حيث يتلاحم ما هو داخلي وخارجي عن الذات الشاعرة في خلق مأساة المعنى الذي يلهج بخطاب الألم حيثما اتجهت. لقد تأتى للشاعر، من خلال إحساسه العميق بالحياة ونبضها، وإنصاته القوي للناس والأشياء، أن يرصد العلامات القوية التي تؤسس لانهيار القيم الإنسانية النبيلة على سطح الأرض، حيث يصور الشاعر كل شيء مقلوب، إذ اتخذت الأشياء عكس مدلولاتها التي منحها قانون الطبيعة الفطري، فجرفت معها المعاني والقيم والدلالات. يقول الشاعر: «كل شيء أصبح/ مصطنعا/ الحب يمكن أن تشتريه/ في معلبات/ ذاكرتنا صدئت/ لكن ثمة عواطف زرقاء/ تجمع بيني وبينك» ص 24. هناك هوة سحيقة تتبدى من خلال المتن الشعري بين الذات الشاعرة وبين محيطها الذي يسرق منها اللحظات الجميلة، حيث دائما تستيقظ على فظاعة من الأخبار والدمار، حيث كل مرة تعشب الجروح مع إقدام كل موال حزين من أية جهة كانت. فالشاعر مسكون بأحاسيس إنسانية مفرطة، وهو يوزعها هنا، على الجمل والعبارات، فتبدو مشحونة بقيم الحياة التي يخلو منها واقع مزيف، واقع يشيئ الإنسان ويستعبد النوازع الآدمية لديه، ويفرغه تماما من كل المعاني التي تميزه عن سائر المخلوقات. وهكذا تتبلور القيمة الرثائية للمجموعة الشعرية التي صورت القيم مقلوبة، وكشفت الجراح العميقة الباطنية، وعمقت الصدمة التي لا يفيق بها الآدمي. لقد ارتوت الأرض بالدموع بدل أن ترتوي بالمطر، يقول: «رأفة، لم نوقظ الدموع/ المتمددة/ جنب رأسينا/ وكلما عم الأرق/ أعالي الجبال/ زودنا الجداول المنهكة/ بنغمات ومسكنات» ص 26. ولترسيخ المعاني الشعرية، ارتأى الشاعر استدعاء شخوص من الذاكرة من أجل توظيفها خدمة للدلالة المبتغاة من النصوص، وكلها شخوص لها مكانتها في التاريخ الكوني «جورج سيمنون، مايكوفسكي، أخيل، هوميروس، أبو نواس، ... «، كما وظف بعض الصياغات القرآنية بعد أن حور محتواها «بشهب بحجارة من سجيل» ص 51، «لكن لم يكن قد بقي منه إلا سبع موجات عجاف، يحملن في مقاعدهن الخلفية سبع نساء ضاحكات» ص 85، ولعب على البياض والسواد في تأثيث فضاء صفحته بشكل يضمن لها تعبيرا تشكيليا إلى جانب التعبير اللغوي والمجازي. ونتبين بشكل ومضي بروز صورة امرأة تتخايل بين المعاني: هناك دوما أنثى تعبر، مثل الوهج، الصور والمجازات طافحة بحزنها غارقة في صمتها. ولست أدري أهي امرأة أم قصيدة؟ فكل الأسماء والكلمات تلبس هنا غير لباسها الحقيقي. وبالتالي يصعب عليك أن تدرك لغز الحروف وأسرارها الموحشة التي كأنما تدفعها العواصف من القرون الطباشيرية الأولى حافلة بكل العتاقة والغموض والفطرية. يقول مبارك وساط: «فيما تعلو من كتفيك/ تشكيلات ألوان/ واستعارات/ حقا، إن قلت وداعا/ ستسري/ في عظامي/ صلوات النجوم الخرساء» ص 80. ويضيف بخصوص توجهه الشعري في اختلاق الصور والمعاني «لقد حكم علي بالتسكع/ فبيتي/ الشعري/ قد جرفته الأمواج/ وعلي بمساعدة نموري/ أن أبنيه/ ثانية» ص 8، مدللا على أن الكتابة عنده هوس تجريبي دائم لا يرسو على حال. إنها تجدد ذاتها تلقائيا ويوميا، وهو يستجيب لرغبات قصيدته الحرون المتأبية على التنميط. يتأتى لي أن أقول إن الشاعر مبارك وساط يميل إلى الصنعة الشعرية، ويروم خدش المعاني المسكوكة، مثلما يراهن على تحرير اللغة من الثابت. إنه يترك للشعر أن يتنفس الهواء اللغوي والمجازي الذي يشتهيه.