عندما يكون النصّابون والمحتالون أشخاصا عاديين أو حتى مسؤولين فالأمر عادي، لكنْ عندما تحترف شركات النصب وتمتهن «الاحتيال القانوني» فالأمر مثير للاستغراب. في هذا التحقيق، نُطْلعكم على وجه آخر لعالم الاقتصاد في المغرب. في هذا العالم تنشط شركات تحترف النصب بطرق قانونية. ورشات كبرى لإصلاح السيارات تابعة لمصانع عالمية «تنفخ» في فواتير للحصول على مَبالغَ مضاعَفة من شركات تأمين. خبراء، محلفون ومحامون يُشكّلون شبكات يحمي بعضهم بعضا خلال توسطهم بين شركات إصلاح سيارات وشركات تأمين.. نطلعكم في هذا التحقيق، أيضا، عن أدهى طرق تهريب الأموال والتهرب التي تحترفها شركات للاستيراد والتصدير أو ما يسمونه «الزيتون لكحل».. كيف تقوم شركات بتحويل ملايير الدراهم سنويا إلى أوربا دون أن تغادر هذه الأموال المغرب؟.. من هم سماسرة تحويل العملات والمتاجرة في «الزيتون لكحل»؟ لأول مرة، نتعرّف على الوجه الخفيّ لشركات نداء تنشط في المغرب وينشط ضمنها شبان مغاربة اعتُقِلوا بسبب نصبهم على أجانب. نكشف، كذلك، عمليات النصب الإلكتروني التي يقوم بها مغاربة ويكون ضحاياها مغاربة أيضا.. التحقيق التالي يعرض، بالوقائع والوثائق والحالات، طرق النصب التي تلجأ إليها شركات. منذ سنة 2010 بدأ المغرب يشهد طرق نصب جديدة. في هذه السنة، تفجرت قضية شبكات حوادث السير الوهمية. ابتُدِعت هذه الطريقة في دول غربية، خاصة في أمريكا اللاتينية، قبل أن تصبح ماركة مغربية مسجلة. الطريقة سهلة للغاية: أشخاص يُبلّغون عن حادثة سير. يحرر دركيون متواطئون معهم مَحاضرَ، كما يتواطؤ أطباء بتحرير شواهد طبية غير واقعية، ويتم التقدم بالملفات لشركات التأمين قصد تعويضهم عن الحادثة.. بعد تقارير زائفة يُعدّها خبراء محلفون يشتغلون ضمن هذه الشبكة، تُخرج شركة التأمين تعويضا ماليا كبيرا يقتسمه أفراد الشبكة.. في سنة 2010، تم تفكيك أكبر شبكة للحوادث الوهمية في خريبكة. اعتُقِل دركيون ومحامون وأطباء بعد ثبوت اختلاقهم أزيدَ من 30 ملف حادثة سير وهمية. وفي السنة الجارية، فُكِّكت شبكة أخرى في برشيد، ضمنها برلمانيون وشخصيات مسؤولة. أكبر ضحايا الحوادث الوهمية هي شركات التأمين. تؤكد أرقام غير رسمية أن 40 في المائة من الملفات التي يتم التقدم بها لشركات التأمين يتم التلاعب والغش فيها، غش يتم عبر ابتداع حوادث وهمية من طرف شبكات متخصصة ويسهل كشفه. طرق غش أخرى يصعب إثباتها أو حتى الشك فيها. يتعلق الأمر بقيام شركات إصلاح سيارات ب»النفخ» في قيمة فواتير إصلاح سيارات تعرضت لحوادث سير. يكون المتواطئون في هذه العمليات مدراء شركات وورشات وتقنيين وخبراء مُحلَّفين. هذا ما تؤكده حالات نعرضها في ما يلي، مدعمة بوثائق دقيقة. فواتير «منفوخة» كانت البداية بحادثة سير تعرَّضت لها سيارة «ح.» في «كورنيش» «عين الدياب» بالدارالبيضاء. حل مراقب تابع لشركة التأمين بالمكان وأنجز محضر معاينة بالحادثة. بعد إعداد الملف وتقديمه لشركة التأمين، تبدأ القصة. تُعيّن شركة التأمين خبيرا يتتبع الملف منذ بدايته، إذ يُعدّ تقريرا مرفقا بصور حول السيارة والأضرار التي لحقتْها، قبل أن يؤشر على الفاتورة الأولية «دوفي» لإصلاحها، ومن ثم يُدفَع الملف كاملا لشركة التأمين. «سبق أن تعرضت سيارتي لحادثة سير. عندما تكلف ميكانيكي عادي بإصلاح السيارة وإعداد الفاتورة، كان الخبير حينها متشددا للغاية، إذ رفض الموافقة على الفاتورة الأولية وحذف مجموعة من قطع الغيار التي كان يجب استبدالها.. تعرضت السيارة في الحادثة الأولى لأضرار حدد الخبير لإصلاحها مبلغ 5 آلاف درهم، ولكن الأضرار التي لحقت السيارة في الحادث الثاني كانت أقل، ومع ذلك، وافق الخبير على مبلغ قدره 12 ألف درهم، والسبب أن الإصلاح كان داخل ورشة تملكها شركة للسيارات»، يقول «ح». التفاصيل التي ستلي تشير إلى أن الخبير، عوض التشدد الذي أبداه عندما كان التعامل مع ميكانيكي عادي، أبدى ليونة مطلقة في التعامل مع الفاتورة التي أعدتها شركة الصيانة هاته، والمملوكة لشركة كبرى للسيارات فرنسية الجنسية. «في المرة الثاني، لم يخلف الحادث سوى خسائر بسيطة في العجلة الأمامية للسيارة. نقلتُ العربة إلى الورشة التي ذكرت، وتم تحديد مبلغ «خياليّ» لإصلاحها، إذ تم وضع فاتورة أولية قدرها 30 ألف درهم»، يتابع «ح». خلال استفسار «ح» عن سبب تحديد مبلغ 30 ألف درهم من أجل إصلاح عجلة سيارته، أخبره مدير الورشة والتقنيّ المكلف بإصلاح سيارته أن شركة التأمين هي التي ستدفع. وجاء الجواب ذاته على لسان المسؤولين في هذه الشركة عندما طلب استفادته من تخفيض بقيمة 30 في المائة، والذي تُحدده شركة الصيانة لزبنائها، إذ قالوا له: «ونْتا مالْك؟ ياك شركة التأمين هي اللّي غادي تخلص.. حنا كانديرو تخفيضْ غير على شركات التأمين اللّي عندنا مْعاها اتفاقية». ظل «ح» يتردد على هذه الورشة لأيام من أجل تخفيض قيمة الفاتورة الأولية التي كان واضحا أنه تم «النفخ» فيها. لم تكن سيارته هي الوحيدة التي تُصلَح بمبلغ باهظ. كانت الورشة الفسيحة تعُجّ بسيارات عدة تنتظر دورها للإصلاح منذ شهور. كان «ح» متخوفا من أن يرفض الخبير هذه الفاتورة الأولية: «ضمّت الفاتورة الأولية قطع غيار طلبوا تغييرها رغم أنها جديدة، كما أن كلفة الصيانة كانت باهظة جدا»، يوضح «ح». شملت الفاتورة تغيير مصباح حُدِّد له مبلغ 1649 درهما و86 سنتيما، رغم أن ثمنه الحقيقي هو 700 درهم.. أما قطع الغيار التي يتمس استبدالها رغم أنها جديدة فلا يحق للزبون المطالبة بها. سيتبين، بعد دردشة قصيرة مع أحد التقنيين العاملين في هذه الورشة، أن قطع الغيار التي ما زالت صالحة للاستعمال يتم تجميعها وبيعها لأحد تجار قطع الغيار، ما يدر دخلا إضافيا على هذه الشركة، بشكل غير شرعي. إلى جانب ثمن قطع الغيار التي تتكلف شركة الصيانة بتوفيرها، يتم احتساب كلفة الإصلاح. هذه الكلفة لا يتم التفاوض بشأنها، بل تحدد وفق ساعات العمل التي يتطلبها إصلاح السيارة. تكون كل ساعة عمل مقابل 100 إلى 200 درهم. ورغم أن السيارة التي أراد الزبون «ح» إصلاحها لم تتطلب، حسبه، سوى ثلاث ساعات عمل، فإن شركة الصيانة احتسبت، في الفاتورة، 52 ساعة، أي أزيدَ من يومي عمل متواصلين، بقيمة 120 درهما عن كل ساعة، ما يعني أن كلفة إصلاح السيارة وصلت إلى 6 آلاف و240 درهما، علما أن الأضرار التي لحقت بالناقلة لم تتطلب سوى استبدال دعامة العجلة وإصلاح تلَف في جانب من الواقية الأمامية للسيارة. «لم تكن الأضرار التي تكبدتها السيارة لتُكلّف سوى 5 آلاف درهم عند ميكانيكي عادي، لكن شركة الصيانة رفعت قيمة الفاتورة إلى 30 ألف درهم»، يقول «ح» مستغربا، قبل أن يضيف: «ظننت في البداية أن الخبير سيلغي الفاتورة بسبب ارتفاع الكلفة، لكنه لم يُبدِ اعتراضا، وهو الأمر الذي فاجأني». ما دفع هذا الزبون إلى طلب خفض قيمة الفاتورة التي حددتها شركة الصيانة هو أن شركة التأمين الخاصة به ستعترض على الملف: «عندما تتجاوز الفاتورة مبلغ 20 ألف درهم، فإن شركة التأمين تؤخر الملف وترسل خبيرا ثانيا من أجل متابعة ملف التأمين، ونظرا إلى أن جميع الخبراء الذي يُنتدَبون من طرف شركة التأمين يتعارفون بينهم، في إطار تبادل مصالح بينهم وبين شركات الصيانة، فإن الخبير الثاني سيؤشر على سلامة الفاتورة»، يردف «ح». إلحاح «ح» أوقع شركة الصيانة هاته في خطأ فادح، إذ عمدت إلى تقليص تكاليف الصيانة وأعدّت فاتورة ثانية تخصم أكثر من نصف المبلغ الذي سبق لها أن حدّدتْه في الفاتورة الأولى. «المساء» حصلت على الفاتورتين معا، إذ تشير الفاتورة الأولى، المؤرخة ب18 يوليوز 2011، إلى أن تكاليف صيانة وإصلاح السيارة بلغت 30 ألفا و629 درهما و92 سنتيما. أما الفاتورة الثانية، المؤرخة بتاريخ 27 يوليوز 2011، فتوضح أن كلفة الصيانة هي 12 ألفا و368 درهما و20 سنتيما. تؤكد الفاتورتان أن إداريَّ الشركة عمد إلى تقليص الفاتورة دون استناد إلى معطى موضوعي، وهو ما يفسر أن الخصم حدث فقط بجرة قلم، من خلال شطب بعض المصاريف التي تم احتسابها، وتشمل قطع غيار. هذا ما يدل على أنه لم تكن هناك حاجة إلى استبدال قطع الغيار هاته، ومع ذلك، أُدرِجت ضمن الفاتورة. شمل الخصم، أيضا، عدد ساعات العمل، التي انتقلت من 52 ساعة إلى 44، مع الاحتفاظ بثمن 120 درهما مقابلا عن كل ساعة عمل. وتعطينا نظرة على عمليات الصيانة التي تسند إلى هذه الشركة فكرة عن حجم الأرباح التي تراكمها، إذ تستقبل، أسبوعيا، عشرات السيارات، خاصة التابعة منها لشركات تأمين وأبناك متعاقدة معها. الأكثر من هذا، أن هذه الشركة تتكلف بصفقات غاية في السرية، آخرها، حسب ما أكده مصدر ل»المساء»، صفقة صيانة 170 سيارة جديدة اقتناها الدرك الملكي من شركة فرنسية، وكلفت شركة الصيانة المذكورة بفحصها وتغيير قطع غيارها، رغم أن هذه السيارات ما زالت جديدة، كما أن عمليات الصيانة تمت في مرآب تابع للدرك الملكي في الرباط. شبكات «الزيتون لكحل».. توازي التدليسَ والتزويرَ اللذين تعتمد عليهما شركات من أجل الرفع من مداخيلها حيّلٌ أخرى أكثر دهاء وتنظيما وخطورة. تعتمد هذه الحيّل على الاشتغال مع شبكات منظمة تحترف الجريمة المالية، وتتسم عملياتها بالدقة إلى درجة يصعب تعقبها. من بين هذه الحيّل الماكرة التي تعمد إليها بعض المقاولات الاستعانة بشبكات إجرامية توفر فواتيرَ مزورة من أجل التهرب الضريبي. قبل أيام، اعتقلت مصالح الأمن في الحي المحمدي -عين السبع شبكة تضم ثلاثة أشخاص تعمد إلى بيع فواتير لشركات من أجل استعمالها خلال تقديم حصيلة مصاريفها لإدارة الضرائب، من أجل تقليص قيمة الضريبة التي يمكن أن تُفرَض عليها. تمكنت هذه الشبكة من الحصول على عدة كنانيش فواتير تخُصّ مجموعة من الشركات الخاصة وظل أفراد الشبكة يبيعونها لأصحاب شركات يرغبون في إضافتها إلى المصاريف التي تدلي بها شركاتهم لتقليص الضريبة. وكانت هذه الفواتير تباع مقابل 200 درهم للفاتورة الواحدة. اكتشفت عناصر الأمن، أيضا، أن أفراد هذه الشبكة كانوا يبيعون فواتير لشركات خاصة، تتضمّن مَبالغَ مالية كبيرة، كما يتم التأشير عليها بواسطة ختم مزور. غير أن «حيلة» الفواتير المزورة من أجل التهرب الضريبي تبدو «قديمة» مقارنة بطرق تهرب أخرى تحترفها شبكات أكثر تنظيما وصعبة الكشف. تُعرف أبرز هذه الحيل لدى أصحاب شركات ومقاولات تصدير واستيراد ب«الزيتونْ لْكحل». يُوضّح هذه الطريقةَ مصدر ل«المساء» بقوله: «لديّ شركة مثلا، وأريد استيراد سلع من أوربا بقيمة 3 ملايير درهم، ما يعني أنه يجب أن أسلّم الشركة الأوربية مقابل السلع مبلغا بالأورو، أي أنه سيتم نقل الأموال إلى أوربا، وعندما أستورد السلعة، يجب أن أعشّر عليها في الجمارك عن كل واحدة من السلع التي أستورد، وبالتالي قد تتضاعف قيمة السلعة، لذلك ألجأ إلى ما يعرف ب«الزيتونْ لْكحل»، أي أنني ألجأ إلى شخص أسلّمه المبلغ بالدرهم هنا في المغرب، بينما يتكلف شريك له يوجد في أوربا بتسليم المبلغ بالأورو للشركة الأوربية.. وتُمكّن هذه العملية من تقليص قيمة الشراء بالعملة الصعبة، حيث لا يتم نقل الأموال إلى أوربا. في نهاية المطاف، تكون قيمة السلعة التي اشتريتها هي 3 ملايير و500 مليون سنتيم، مثلا، عوض 10 ملايير سنتيم، إذا تم المرور عبر القنوات الجمركية العادية وشركات التّرانزيتْ». تبدو طريقة «الزيتون لْكحل» معقدة، كما يتضح من شرح المصدر الذي رفض الكشف عن نفسه، إلا أن مجموعة كبيرة من المقاولات تلجأ إليها، حسب ما أكده المصدر ذاته. يحترف هذه الطريقة مغاربة ينتظمون وفق شبكات، إذ يوجد أشخاص في المغرب وآخرون في دول أوربا. وكشف المصدر ذاته ل«المساء» وجود أشخاص يحترفون «الزّيتونْ لْكحلْ»، يوجد أغلبهم في مدينة الدارالبيضاء، كما يوجد ثمانية منهم في درب عمر وآخرون في شارع الجيش الملكي. أما تسمية هذا النوع من المعاملات ب»الزّيتونْ لْكحلْ» فيفسره المصدر نفسه بالقول: «يكون التعامل بين الزبناء ومحترفي هذه الممارسة وفق معيار مُحدَّد وهو كمية «الزيتون لْكحل»، فكيلو من الزيتون لكحل يعني 100 مليون سنتيم، وكل كيلو، أي كل 100 مليون سنتيم، تحدد لها قيمة 7 دراهم عن كل أورو. الربح الذي يكون للمقاولة هو أنها توفر شراء العملة الصعبة بثمنها المُتداوَل في السوق المالية، أما الربح الذي يتحصل عليه محترفو «الزيتون لكحل» فهو توظيف أموالهم في نشاط يُدرّ عليهم دخلا دون مجهود، بمعنى آخر: هذا النشاط هو بمثابة تحويل أو صرف للأموال، لكنْ بطريقة غير قانونية وبالتعامل بمَبالغَ كبرى». لكنْ، كيف يحصل محترفو «الزّيتون لكحلْ» على كل هذه الأموال الضخمة والتي يوظفوها لصالح مقاولات كبرى من أجل استيراد سلع دون نقل للأموال؟ جاءنا الجواب عن هذا السؤال من مصدر آخر سبق له أن تعامل بهذا النوع من الممارسات، في إطار «مافيا» منظمة: «غالبا ما يكون تجار «الغْبرة» هم الذين يحترفون تجارة «الزيتون لكحلْ»، خاصة الذين ينشطون مع مافيات إيطالية، إذ يتم توظيف أموال متحصلة من أنشطة غير مشروعة وعمليات كبرى لتهريب المخدرات القوية في عمليات تهريب للأموال لصالح مقاولات استيراد وتصدير»، يكشف المصدر ذاته. كانت طريقة «الزيتون لكحل»، الرائجة بشكل كبير في المغرب، إحدى أهمّ أسباب وضع المغرب، خلال السنة الماضية، ثالثا على الصعيد الإفريقي في مجال تهريب الأموال، حسب تقرير صادر عن السلامة المالية العالمية، وهي منظمة أمريكية غير حكومية. أبرز هذا التقرير أنه ما بين 1970 و2008، تم تهريب 25 مليار دولار من المغرب إلى الخارج بشكل غير قانوني. ولم يتوقف التقرير عند هذا الحد، بل أفاد أن 56 في المائة من هذه الأموال المهربة يتم اللجوء إلى نقلها بطريقة غير قانونية من خلال التلاعب بفواتير السلع المُصدَّرة أو المُستورَدة. وسجل التقرير نفسُه حالات اتفاق مقاولات، في المغرب والخارج، على رقم محدد في جميع الفواتير، بينما يتم الاحتفاظ بهامش المبلغ خارج الفاتورة ضمن حسابات خارجية، ويتم اللجوء إلى قنوات خاصة من أجل التعامل ماليا، وتحديدا عبْر ما يسمى «الزيتون لكحل». دفعت الأرباح الكبيرة التي توفرها عمليات «الزيتون لكحل»، سواء لمحترفيها أو للمقاولات، أصحاب أموال طائلة، لم يثبت أنهم حصلوا على ثوراتهم من عمليات تهريب مخدرات وأنشطة أخرى محظورة، إلى توظيف أموالهم في عمليات «الزيتون لكحل» للاستفادة من هامش الربح المُتحصَّل من تحويل العملات دون حتى أن تغادر حدود الدول. كما انفتحت «شهية» أرباب مقاولات أخرى، في المقابل، على تعاملات مشبوهة إضافية تدخل في نطاق جرائم الأموال وتُهدّد سلامة السوق المالية.
عاملون في مراكز نداء يسْطون على أرصدة بنكية لأجانب مع تعقّد طرق الاتصال وتعدد مجالات الاستثمار والاشتغال في المغرب وتنوع التعاملات التي تتم بين مغاربة وأجانب، تظهر أشكال جديدة من النصب على أجانب أبطالها مغاربة، شباب غالبا، يتّسمون بذكاء بالغ ويحترفون عمليات سطو من نوع خاص، لا تتطلب سوى جهاز حاسوب وقاعدة بيانات تتيحها شركات يعملون فيها. هذه الشركات هي مراكز نداء تشتغل في المغرب وتحترف تقديم خدمات لزبناء أجانب، خاصة في فرنسا، في إطار تعاملات هؤلاء الزبناء مع شركات اتصالات فرنسية. تتطلب هذه الخدمات توفُّرَ مراكز النداء على بيانات مالية دقيقة لهؤلاء الزبناء، من خلال الاطّلاع على أرقام حساباتهم البنكية وتفاصيل أخرى. يكشف أحد أطر شركات النداء هذه أن بعض العاملين فيها يتمكنون من استغلال المعلومات البنكية الخاصة بالزبناء للسطو على أموالهم. تشمل العمليات سحب مَبالغَ مالية من الحسابات البنكية لزبناء أو تحويلها إلى حسابات أخرى. ورغم أن مراكز النداء تحتاط بشكل بالغ من قيام بعض العاملين فيها بالسطو على حسابات بنيكة لزبنائها، إذ تشدد المراقبة على قاعدة بيانات الزبناء وتُشغّل مراقبين خاصين للعاملين في هذه المراكز، كما تعلق كاميرات مراقبة في «بلاتوهات» مستخدميها فإن كل هذه الاحتياطات لا تمنع من تنفيذ بعض المستخدَمين عمليات اختلاس يكون ضحيتَها زبناء أجانب، إذ يتم توقيف عمال مراكز نداء، بين الفينة والأخرى، بعد ثبوت قيامهم بعمليات السطو على أرصدة بنكية. وأكد هذا الإطار في أحد مراكز النداء ل«المساء» أنه لا تتم محاكمة الموقوفين، بل يتم «تطويق» القضية بمحاسبته وطرده وإقناع الزبون بأنه وقع «خطأ» في معاملة مالية فقط. المحامي المختص في جرائم الأموال قال إن هناك مخالفات مالية عديدة تعاقب عليها قوانين خاصة صديق: درك البورصة يحقق سنويا في العشرات من ملفات جرائم السوق المالية في هذا الحوار، يوضّح نعمان صديق، المحامي في هيأة الدارالبيضاء والمختص في جرائم الأموال، كيفية تطور القوانين المغربية التي تحظُر الجرائم المالية وتهدف إلى حماية السوق المالية. ويبرز صديق، أيضا، أنواع هذه الجرائم والقوانين التي تعاقب على ارتكابها، كما يحدد الأطراف الموكول إليها التقصي وتتبع الجرائم المالية. -كيف تطورت القوانين التي تعاقب على جرائم الأموال وطرق الاحتيال التي تحترفها بعض الشركات والمقاولات المغربية؟ لقد عرفت القوانين المغربية تطورا كبيرا في العشر سنوات الأخيرة، وفي هذا الإطار، نجد أن المُشرّع المغربي أوجد العديد من الميكانيزمات القانونية لحماية السوق المالية من كل فعل أو امتناع عن فعل يمُسّ أمن وسلامة السوق المالية، وهو ما يدل على بداية بروز للقانون الجنائي الاقتصادي في الترسانة القانونية المغربية. في هذا الصدد، نجد شكلين للأعمال والتصرفات المجرمة في السوق المالية (البورصة). يتجلى الشكل الأول في خيانة الأمانة والنصب، والثاني في جرائم البورصة، مثل جرائم الاحتكار في سوق البورصة وتسريب المعلومات المميزة بسوء نية قصد استغلالها. وقد عرف المغرب مجموعة من الجرائم في هذا الإطار، حيث إنه ما بين سنتي 2005 و2006 تم التحقيق في ما يقارب 37 ملفا من طرف درك البورصة في مجلس أخلاقيات القيّم المنقولة، كما أن جهاز درك البورصة يحقق سنويا في عشرات ملفات جرائم السوق المالية، مما يبرز تطور الجريمة المالية في المغرب، والتي يتعين مواجهتها بقوانين جِدّية ومتطورة لردع مرتكبيها والحد من خطورتها. وفي ما يخص أولى المحاولات التي عرفها المغرب واستهدفت تجريم الغش الضريبي فقد كانت مع مشروع القانون -الإطار لسنة 1984، الذي اقترح في أحد فصوله، في سابقة من نوعها، عقوبة الحبس، وهو الفصل الذي حذفته لجنة المالية التي أوكلت إليها مهمة دراسة المشروع. -يلاحظ احتراف بعض الشركات المغربية طرقا غاية في الذكاء للتملص الضريبي أو للنفخ في فواتير.. هل تدخل هذه الطرق ضمن الجرائم المالية؟ أولا، تجب الإشارة إلى أن هناك مخالفات مالية عديدة، من بينها الغش الضريبي. ويطرح هذا النوع من الجرائم المالية إشكال ضبطه وتحديد أركانه، ويتحدد الركن المادي لهذا النوع من المخالفات في تقديم تقييدات محاسبية مزيفة أو صورية أو تسليم وتقديم فواتير صورية أو بيع بدون فواتير بصفة مكررة أو إخفاء أو إتلاف وثائق الحسابات المطلوبة قانونا أو اختلاس مجموع أو بعض أموال الشركة أو المنشأة أو الزيادة بصورة تدليسية في خصومها قصد افتعال العسر. إلى جانب هذا الركن المادي، هناك ركن معنويّ، يتجلى في وجود نيّة الغش الضريبي، وتُحدَّد بالإفلات من الخضوع للضريبة أو التملص من دفعها أو الحصول على خصم منها أو استرداد مَبالغَ بغير وجه حق. في مقابل المقتضيات القانونية التي تعاقب الغش الضريبي، هناك القانون الجنائي للشركات، والذي تَضمَّن عقوبات يعتبرها مُسيّرو الشركات والمقاولات مُشدَّدة، وتضبط هذه المقتضيات القانونية جميع المخالفات التي يمكن أن تقع فيها الشركات، خاصة خلال مراحل التصفية. كما تخضع المخالفات لما يعرف بالقانون البنكي وشركات التأمين، والذي يحدد المخالفات، مثل جريمة تقديم معلومات كاذبة لبنك المغرب وجرائم تقديم وثيقة استيفاء إجبارية التأمين وجريمة مخالفة قواعد الوساطة وجريمة تسريب المسؤولين تدليسيا كلَّ أو جزءاً من أموالهم وجعلِها غيرَ قابلة للحجز، وغيرها من الجرائم والمخالفات. هناك، أيضا، القانون الجنائي للبورصة، والذي أشرْتُ إليه في معرض الإجابة عن السؤال الأول. ويحدد هذا القانون مجموعة من المخالفات المحظورة في سوق القيّم، بشكل مفصل، ومن بينها دعوة الجمهور إلى الاكتتاب دون المرور عبر مجلس القيّم المنقولة، أو التأثير على السير العادي للسوق المالية والأسعار أو القيام بأعمال البورصة دون المرور بإحدى الشركات المُعتمَدة أو عرقلة مهام البحث والمراقبة الداخلية والخارجية أو القيام بأعمال وسطاء البورصة دون رخصة اعتماد أو جريمة سوء استعمال المعلومات المتميزة. -وما هي الجهات الموكولة إليها مهمة تتبع هذه الجرائم المالية ومحاسبة مرتكبيها، علما أن هذه الجرائم تتّسم بالدقة والتعقيد، كما رأينا؟ هناك عدة جهات تتدخل في هذا الباب، ففي ما يخص جرائم البورصة هناك جهاز «درك البورصة»، الذي له حق تتبع العمليات وفتح تحقيقات، بل وكذلك الانتصاب كمُطالِب بالحق المدنيّ في مواجهة مرتكبي هذه الجرائم، وفقا لأحكام المادة ال34 من القانون المُنظِّم لمجلس القيّم المنقولة. إن مرتكبي جرائم البورصة قد يكونون أشخاصا طبيعيين أو أشخاصا معنويين، وفي الحالة الأخيرة، نجد أن المسؤولية يتحملها الممثل القانوني. وغنيّ عن البيان أن مجلس القيّم المنقولة يعرف تدخل عدة أطراف، من بينها الشركة المُسيّرة لبورصة القيّم وشركات البورصة والهيآت المكلفة بالتوظيف الجماعي للقيّم المنقولة وماسكو الحسابات والوديع المركزي ومؤسستها المسيّرة والمؤسسة الوديعة وصناديق التوظيف الجماعي للتسنيد، والأشخاص المعنوية وهيآت توظيف الأموال بالمجازفة وشركتها المسيّرة.. وهدف هذه الأطراف هو المراقبة والبحث والتحقيق في سوق القيّم المنقولة. وللعلم، فإن مجلس القيّم المنقولة، كجهاز، أصبح يؤدي مهامّ الشرطة القضائية في إطار هذا النوع من الجرائم وفقا لأحكام المادة ال27 من قانون المسطرة الجنائية وكذا وفقا لأحكام القانون المُنظِّم لمجلس القيّم المنقولة. في المقابل، هناك مؤسسات أخرى تتدخل في مجال مواجهة الجرائم المالية وعمليات الاحتيال التي يمكن أن ترتكبها شركات. من بين هذه المؤسسات نجد المكتب المغربي للملكية الصناعية والتجارية ومجلس المنافسة والاتحاد العامّ لمقاولات المغرب، وجمعيات مهنية تؤطر شركات التمويل والبنوك وشركات البورصة وجمعيات محاربة الرشوة ومكافحة الفساد المالي.