عند النظر إلى تجربة الشاعر السوري الكبير محمد الماغوط لا بد من استحضار مقدار الإعجاب الذي حازه هذا الشاعر المتربص مثل النسر، بين مجاييله أو بين الشعراء اللاحقين به، ومقدار الخصومات التي كان يجرها عليه « لسانه الحاد والسليط»، ألم يقل مثلا في إحدى تصريحاته المتهكمة، أو التي فهمت كذلك «لا يوجد في مصر إلا سعاد حسني» في حديثه عن الشعر الحديث في مصر، وكان أن هوجم بشدة من طرف الوسط الثقافي المصري، الذي رأى في تصريحات الماغوط نوعا من الاستهتار والتشنيع. يرى الماغوط، كما يورد ذلك الشاعر اللبناني عقل العويط « أنه أكثر الأموات كلاما، يقول» لقد جئت متأخرا عن هذا العالم/ كزائر غريب بعد منتصف الليل» لا شيء يربطني بهذه الأرض سوى الحذاء، ف «أيها المارة/ اخلوا الشوارع من العذارى/ والنساء المحجبات.../ سأخرج من بيتي عاريا لأعود الى غابتي». فبمثل هذه الوحشية والبدائية، وبمثل هذا العدوان الزاخر بغريزة الشعر، يكتب الماغوط حياته، نثره، شعره، قد صعقني ما يكتبه فأحببته عندما قرأته للمرة الأولى، منذ أن كنت في الصفوف الثانوية، ولا أزال أحبه. فهذا الذي قال يوما: «سئمتك أيها الشعر، أيها الجيفة الخالدة/ لبنان يحترق/ يثب كفرس جريحة عند مدخل الصحراء» و «ضمني بقوة يا لبنان/ ألذ أكثر من التبغ والحدائق» و «لا أشعار بعد اليوم/ إذا صرعوك يا لبنان/ وانتهت ليالي الشعر، التسكع/ سأطلق الرصاص على حنجرتي»، مثله، شاعرا، لا يحتاج إلى أن نستضيفه، لأننا ضيوفه على صفحات كانت ولا تزال- في عهد بيروت ولبنان وعهدهما- بيته وموئله. بل موئل المغامرة الشعرية والحرية.وحتى آخرهما».. الشاعر الفلسطيني عمر شبانة، يرى أن الماغوط « لم ينجُ من شعور الغربة والنفي. هذا الشعور الذي سيكبر معه حتى يلتقي رفيقته سنية صالح، الصديقة أولاً، والزوجة لاحقاً، التي احتضنت أحزانه وآلامه، وضمدت جراح روحه قبل طعنات جسده. سنية التي كتبت عن الماغوط في مقدمة أعماله الكاملة (الطبعة الأولى، وهي المقدمة التي تضمها الطبعة الجديدة الصادرة في دار المدى 1998)، أنها خرجت تبحث عنه في أثر أحد الانقلابات، «وكان في ضائقة قد تجره إلى السجن أو ما هو أمرّ منه»، فعملت على إخفائه عن الأنظار في «غرفة صغيرة ذات سقف واطئ حشرت في خاصرة أحد المباني، بحيث كان على من يعبر عتبتها أن ينحني وكأنه يعبر بوابة ذلك الزمن.. سرير قديم، ملاءات صفراء، كنبة زرقاء طويلة سرعان ما هبط مقعدها، ستارة حمراء من مخلفات مسرح قديم. في هذا المناخ عاش محمد الماغوط أشهراً عديدة». وشعرياً، ترى سنية أن الماغوط «من أبرز الثوار الذين حرروا الشعر من عبودية الشكل.. وقد لعبت بدائيته دوراً هاماً في خلق هذا النوع من الشعر..». وقريباً من هذا، ما قالته الشاعرة والناقدة الفلسطينية سلمى الجيوسي، في معرض حديثها عن الحداثة الشعرية العربية وفرسانها، فقد رأت أن الماغوط «كتب الحداثة أكثر من الشعراء الآخرين الذين نظّروا بها. هذا الرجل لم أستطع أن أحل إشكاليته في قدرته على امتصاص الحداثة فهو ليس حداثياً، بمعنى الحياة الخارجية، وهو لا يتقن لغة أجنبية، وعندما كتب هذا الشعر لم يكن يعرف الشعر الغربي». وسنية التي- برحيلها- أعادت الشاعر إلى كتابة الشعر، بعد انقطاع استمر من عام 1974حتى 1989، حين كتب «سياف الزهور: مقطع من موت واحتضار سنية صالح». في هذا النص عاد الماغوط بلغته الوحشية، وأسئلته الوجودية، ولكن بإيقاعات أشد شراسة». وفي مقام آخر يكتب عنه الشاعر العماني سيف الرحبي «يكن الماغوط بحكم حدية مزاجه الشعري يمكنه الاندراج ضمن مشروع جماعي، ليس في السياسة التي لم تعرف عنه أي محطة مر عبرها، تبشّر أو تدعو إلى يقين مستقبل ما، لفكر ضمن منظومة أفكار تلك المرحلة التي تبينت هشاشتها أمام أي ارتطام بالوقائع والتاريخ. كان ذلك المزاج بنزعته الكارثية بمثابة حصانة، حصانة اليأس. واستشراف الشعر من غير تنظيرات ولا مقدمات منطقية ... لم يكن الماغوط يندرج حتى ضمن تصور شعري جماعي، حتى قصيدة النثر التي يكتب في إطارها. لم يكن يهمه الدفاع عنها والذود عن حياضها المنتهكة من طرف أكثر من وجهة. كان يعبر صراحة وضمنا عن رأيه، بأن المسألة لا تعنيه كون هذه الكتابة تندرج ضمن ما يدعى ب(الشعر) أو (النصوص) أو غيرهما. كان حدْسه يقوده إلى جوهر الشعر، إلى روحه وحقيقته الداخليّة. كان ابتعاده عن السجال الدائر بهذا المعنى؛ جزءا من قناعة ضمنية بلا جدوى مثل هذا السجّال، وأن الشعر يقع في مكان آخر، بلا جدوى مثل هذا النقاش الذي ما زال على أشدّه حتى اللحظة الراهنة، أي ما يربو على الأربعة عقود. ما زالت مفردات وآليات الكرّ والفرّ والهجوم والدفاع قائمة فكأنما زمن الثقافة العربية لم يبرح مكانه، جامد ومتخشبّ كالحياة نفسها». مقاطع من «جنازة النسر» أظنُّها من الوطن هذه السحابةُ المقبلةُ كعينين مسيحيتين ، أظنُّها من دمشق هذه الطفلةُ المقرونةُ الحواجب هذه العيونُ الأكثر صفاءً من نيرانٍ زرقاءَ بين السفن . أيها الحزن .. يا سيفيَ الطويل المجعَّد الرصيفُ الحاملُ طفله الأشقر يسأل عن وردةٍ أو أسير ، عن سفينةٍ وغيمة من الوطن ... والكلمات الحرّة تكتسحني كالطاعون لا امرأةَ لي ولا عقيده لا مقهى ولا شتاء ضمني بقوة يا لبنان أحبُّكَ أكثر من التبغِ والحدائق أكثر من جنديٍّ عاري الفخذين يشعلُ لفافته بين الأنقاض إن ملايين السنين الدمويه تقف ذليلةً أمام الحانات كجيوشٍ حزينةٍ تجلس القرفصاء ثمانية شهور وأنا ألمسُ تجاعيد الأرضِ والليل أسمع رنينَ المركبة الذليله والثلجَ يتراكمُ على معطفي وحواجبي فالترابُ حزين، والألمُ يومضُ كالنسر لا نجومَ فوق التلال التثاؤب هو مركبتي المطهمةُ، وترسي الصغيره والأحلام، كنيستي وشارعي بها أستلقي على الملكاتِ والجواري وأسيرُ حزيناً في أواخر الليل.