شهدت القاهرة يوم الجمعة الماضي، 18 نونبر، تظاهرة حاشدة في ميدان التحرير، قدرت بمئات الألوف. المظاهرة، التي اتسمت بمشاركة بارزة من القوى الإسلامية، ولدت من محاولة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ممثلا في نائب رئيس الوزراء الوفدي الليبرالي، علي السلمي، فرض وثيقة دستورية إجرائية، تضع قواعد فوق دستورية وإجراءات لاختيار طريقة عمل الجمعية التأسيسية التي ستناط بها كتابة مسودة الدستور المصري الجديد. بدون الغرق في تفاصيل النص، فالواضح أن الهدف المستبطن لما بات يعرف ب«وثيقة السلمي» كان منح القوات المسلحة المصرية موقع وسلطة المرجعية العليا، ليس خلال عملية البناء الدستورية المقبلة وحسب، بل وللدولة المصرية ككل. بحلول المساء، انفض المحتشدون في ميدان التحرير، كما وعدت القوى السياسية التي دعت إلى المظاهرة من قبل، بمعنى أن أحدا لم يلجأ إلى الاعتصام في الميدان على الرغم من خطورة المنعطف الذي يمر به مسار التحول السياسي. ولكن مجموعة من أهالي شهداء ثورة يناير قررت البقاء في الميدان للمطالبة، للمرة الألف منذ انتصار الثورة، بمعاملة عادلة، ولاسيما أنها شعرت بأن فرصة لم تتح لها أثناء يوم التظاهر لإسماع صوتها. في اليوم التالي، السبت، هاجمت قوات الأمن مجموعات الأهالي الصغيرة في الميدان بعنف لم يستطع أحد تفسيره، موقعة عدة إصابات، الأمر الذي أثار ردود فعل واسعة بين المصريين، خاصة دوائر الناشطين الشبان الذين لعبوا الدور الرئيس في إطلاق وتنظيم أحداث الثورة في مطلع العام. بمرور ساعات اليوم، كان الحشد في الميدان يتزايد، والاشتباكات بين الشبان وقوات الأمن تتصاعد هي الأخرى. مع اقتراب المساء، ولأن قوات الأمن المصرية عادت إلى عادتها السابقة في استخدام الذخيرة الحية ضد المتظاهرين، أعلن عن سقوط عدد من الشهداء، في القاهرة وفي عدد آخر من المدن المصرية. ولكن الشبان المتظاهرين وأهالي الشهداء نجحوا في فرض سيطرتهم على الميدان. يوم الأحد كان الأعنف بلا شك منذ انتصار الثورة وسقوط الرئيس المصري السابق حسني مبارك في 11 فبراير؛ كما كان يوما مفصليا في تحديد علاقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة بالشعب. طوال اليوم، تعرض المحتشدون في ميدان التحرير لهجمات بالغة العنف من قوات الأمن، شاركت فيها قوات من الشرطة العسكرية، وربما بعض وحدات القوات الخاصة في الجيش. بعد ذلك بيومين، ادعى ناطق عسكري بأن قوات الجيش التي شاركت في أحداث الأحد لم تشارك في الهجوم على المحتجين في الميدان، بل استُدعيت لحماية وزارة الداخلية من محاولة بعض الشبان الغاضبين اقتحامها. هذا الادعاء لم يكن صحيحا. شهد الأحد معارك كر وفر للسيطرة على الميدان، انتهت بتأمين الميدان كلية لصالح المحتجين. وكان عدد من المظاهرات قد اندلع عبر أنحاء البلاد، بما في ذلك الإسكندرية ومدن قناة السويس وبعض مدن الصعيد، تضامنا مع المحتجين في القاهرة. في نهاية اليوم، كانت مصر قد استقبلت عشرات آخرين من شهدائها، وأصبح واضحا أن الأزمة وصلت ذروتها. خلال يوم الاثنين، كان ميدان التحرير يعود إلى سابق عهده في أيام الثورة المصرية. وصلت القاهرة مساء اليوم، وتجولت في الميدان طوال ساعات، وحتى ساعة متأخرة من الليل، لم يكن عدد المحتشدين يقل عن مائة ألف، أغلبيتهم العظمى من خريجي الجامعات والطلاب. استمرت الاشتباكات طوال ساعات النهار بصورة محدودة، ولكن المحتشدين أعلنوا أيضا عن مطالب محددة، بما في ذلك استقالة حكومة عصام شرف ومحاسبة المسؤولين عن العنف الذي مارسته قوات الأمن طوال الأيام الثلاثة، وتشكيل حكومة إنقاذ وطني بصلاحيات تنفيذية وتشريعية كاملة، وعقد انتخابات رئاسية في أبريل، تضع نهاية لسيطرة المجلس الأعلى للقوات المسلحة على موقع رئاسة الجمهورية، ونهاية بالتالي للمرحلة الانتقالية. مساء الاثنين، تقدم عصام شرف بالفعل باستقالة حكومته؛ كما أعلن المجلس الأعلى للقوات المسلحة عن دعوة القوى السياسية الرئيسة في البلاد إلى الحوار يوم الثلاثاء التالي؛ ولكن مؤشرا لم يبرز بخصوص المطالب السياسية الرئيسة. فمن المسؤول عن اندلاع هذه الأزمة ومن المسؤول عن حلها؟ نشرتُ قبل شهر، في «القدس العربي»، مقالتين متتاليتين حول المخاطر التي تهدد مصير الثورة المصرية، واحتمالات إجهاض عملية الانتقال لنظام حر وديمقراطي، إن نجحت محاولة استلهام نموذج الستينيات التركي الذي أسس لدولة مدنية ديمقراطية شكلا، يتحكم الجيش في قرارها ومصيرها. والذي يستدعي هذه المخاوف ليس وثيقة السلمي وحسب، على الرغم من أن صيغة الوثيقة في نسختها الأولى لا تحتمل الشك في أنها تؤسس لدولة تسيطر عليها المؤسسة العسكرية. ما يستدعي هذه المخاوف هو سلسلة من التطورات، بعضها ملموس وواضح، والآخر مستبطن وغير صريح. كان المصريون قد صوتوا في استفتاء لا يتطرق إليه الشك، في مارس الماضي، على عدد من التعديلات الدستورية، التي تناولت بعض مواد دستور 1971، وخارطة طريق للمرحلة الانتقالية. وقد أصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعد الاستفتاء إعلانا دستوريا مؤقتا، تضمن المواد التي أقرها الشعب بنسبة أصوات تفوق 77 في المائة. طبقا لخارطة الطريق، كان يفترض أن تبدأ المرحلة الانتقالية بعقد انتخابات برلمانية، ومن ثم قيام مجلس الشعب المنتخب باختيار جمعية تأسيسية لوضع مسودة الدستور الجديد خلال ستة شهور، على أن تجري انتخابات رئاسة الجمهورية بعد الانتخابات البرلمانية بثلاثة شهور، وقبل أن تكتمل عملية كتابة مسودة الدستور، بمعنى أن رئيس الجمهورية المنتخب لن يمارس تأثيرا محتملا على عملية اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية، على الرغم من أنه سيكون صاحب قرار طرح المسودة على الاستفتاء الشعبي، وأن المجلس الأعلى للقوات المسلحة لن يمارس تأثيرا محتملا على عملية كتابة الدستور، رغم أن اختيار الجمعية التأسيسية سيجري والمجلس لم يزل يمارس سلطات رئيس الجمهورية. والمسألة المهمة أن المجلس سيسلم سلطاته إلى رئيس الجمهورية المنتخب، وتنتهي بذلك المرحلة الانتقالية. لو كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة التزم بخارطة طريق الإعلان الدستوري، لكانت مصر قد أكملت الانتقال السياسي مع نهاية هذا العام. ولكن المجلس، كما يعرف المصريون، لم يلتزم. بأسلوب من المماطلة وسياسات يحيط بها الغموض، يجري البحث في أغلب الأحيان عن مبررات لها بعد أن تقر بالفعل، قام المجلس بتأجيل موعد انعقاد الانتخابات البرلمانية إلى نهاية نونبر، على أن تجري الانتخابات على مراحل ثلاث طويلة، لا تنتهي حتى يناير المقبل. وأعلن المجلس أن انتخابات مجلس الشورى ستجري بعد الانتهاء من انتخابات مجلس الشعب، وأن انتخابات رئاسة الجمهورية لن تحدد إلا بعد الانتهاء من وضع مسودة الدستور واستفتاء الشعب عليها؛ وهو ما يعني أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة سيستمر في ممارسة صلاحيات الرئاسة حتى 2013، على الأرجح. وفي الوقت نفسه، طرحت وثيقة السلمي لتحدد قواعد عملية تشكيل الجمعية التأسيسية المنوطة بها كتابة الدستور، بحيث يفقد البرلمان المنتخب حقه الطبيعي في هذه العملية، وتخضع أعمال الجمعية التأسيسية لسلطة المجلس الأعلى للقوات المسلحة. هذا، إضافة إلى المواد الدستورية الأخرى المتعلقة بوضع الجيش الخاص في جسم الدولة المصرية الجديدة وفي مركز قرارها. وكان واضحا، على أية حال، أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة يستغل مخاوف بعض قوى اليسار التقليدي وبعض القوى الليبرالية، أو شبه الليبرالية، من احتمالات فوز القوى الإسلامية في الانتخابات المقبلة ليمرر تصوره الخاص للدستور والدولة. هذا هو المصدر الحقيقي للأزمة، إن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ومباشرة بعد الاستفتاء الشعبي على التعديلات الدستورية وخارطة الطريق، لم يعد يتصرف كمدير لمرحلة انتقالية سريعة، بل على النقيض من ذلك تماما. في الوقت الذي كان فيه الناطقون باسم المجلس وكبار الضباط من أعضائه يؤكدون رغبة الجيش في تسليم السلطة إلى حكومة ورئيس منتخبين في أسرع وقت ممكن، كان المجلس يسعى بكل جهد ممكن إلى إطالة أمد المرحلة الانتقالية، بحيث تستنزف طاقة الشارع والقوى والسياسية. وبدلا من أن يقوم المجلس بدور المدير لمرحلة انتقالية سريعة، تحول إلى حاكم مطلق، يقبض على المقدرات السياسية والدستورية للبلاد، ويعمل على تأمين موقع خاص للجيش في تقرير وجهة الدولة المصرية الجديدة. القول بأن الوضع الحالي استمرار للنظام السابق هو بالطبع ليس صحيحا. هذه حالة من التدافع السياسي مختلفة، ترتكز إلى شروط وقوى وديناميات مختلفة، وتستهدف تحقيق غايات مختلفة عن تلك التي تمحورت حولها غايات الطبقة الحاكمة السابقة. ما لم يدركه المجلس الأعلى للقوات المسلحة، والقوى السياسية قصيرة النظر التي اصطفت حوله، صراحة أو مواربة، وقناعة أو خوفا من صعود الإسلاميين، أن المصريين لم يتعبوا، وأن المصريين يعون طبيعة المرحلة التاريخية التي تمر بها بلادهم والمجال العربي ككل. وليس ثمة شك في أن قرار نهاية الأزمة هو أيضا في يد المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي يتوجب عليه الآن إدراك عمق وحجم الحركة الشعبية في موجتها الثانية. اختار المصريون، كما أشقاؤهم في تونس، أن تستهدف ثورتهم إسقاط نظام الحكم بدون أن تطيح بالدولة، على أن تجرى عملية إصلاح تدريجية للدولة، وإنقاذها من هوة الخراب الذي أصابها بعد عقود من التسلط وتحكم الفئة القليلة. ما شهدته مصر منذ انتصار الثورة كان محاولة مستمرة لإجهاض مشروع إصلاح الدولة حتى قبل أن يبدأ. عودة الشعب إلى ميادين المدن المصرية هو انعكاس للصراع الدائر على روح مصر، الصراع الذي غادر المصريون ساحات مدنهم في فبراير الماضي بدون أن يحسموه، وبات من الضروري أن يحسم. بشير موسى نافع