«بعض الرجال، سياسيين كانوا أم أدباء، ملوكاً أو رؤساء، عامة أو علماء، أغنياء أم فقراء... لا يستطيعون مقاومة عيون النساء ولا دلالهن، ولا طلعتهن، ولا أصواتهن، وهنّ اللواتي يدخلن إلى القلوب بدون استئذان، فسقط البعض منهم أرضاً من أول نظرة أو كلمة أو ابتسامة، والبعض الآخر بقي يتوهم كالشعراء أن كل امرأة في الدنيا تهيم به وبجماله وبسواد عينيه وأنها لا تستطيع الفرار من بين يديه، فتخلوا عن مبادئ وقيم وعادات وتقاليد وأخلاق من أجل لحظة نشوة وشهوة عابرة، لتظهر خبايا حياتهم التنكرية، التي تحمل ألف وجه ووجه بين ثكنات الحكم والسلطة وبين الجنس، الذي لا ينتهي بعد أن فعلوا أي شيء من أجل رغبتهم الجنسية ومن أجل التخبط في عتمة الليل فوق صدر غانية أو امرأة جميلة أفقدتهم الاحترام وهوت بهم إلى دهاليز النسيان والعالم المجهول، حتى ولو كان ذلك ضد القانون، فقبل البعض منهم أن يكون صفرا، وقبل آخر بأن يكون فاعلا لا مفعولا به. بقيت قصصهم تكبر وتصغر مثل كرة الثلج، منهم من ظلمته الشائعات وأصيب في مقتل، ومنهم من لبس ثوب الحقيقة وعرّى نفسه أمام الجميع دون أن يغطي نفسه بورق التوت، فسقطوا من فوق عروشهم في مستنقعات الرذيلة وحكموا في مواخير الجنس والطرب، حتى أضاع بعضهم حكمه. إنهم ملوك وملكات اختاروا الجنس واللذة على السلطة والحكم. وتتذكر ناريمان في المرات القليلة التي تحدثت فيها عن لقائها بالملك قائلة: «وجدت نفسي أتحدث مع الملك كأني أعرفه طوال حياتي، فقد كانت له طريقه خاصة في الاستماع كلما أتحدث إليه، ويشعرك كأنك تقول شيئا حكيما أو ذكيا، وقد شجعني على التحدث وجعلني أشعر بأن كل شيء كنت أقوله كان بالنسبة له مفيدا وذا معنى، وقد أذهلني منكباه وكذا ذراعاه ومعصماه المغطيان بالشعر الأسود، فقد كان قوي البنية، ذا بناء عظمي ضخم، ولم أستطع أن أمنع نفسي من التفكير في زكى هاشم، الذي بدا أنه مدرس بمدرسة تافهة، وفي يوم زيارة الملك لمنزلي، ذهبت مع والدتي إلى حلواني جروبي لشراء تشكيلة غالية من الحلويات وقمنا بتزيين المنزل بالنباتات والزهور واشتريت فستانا جديدا، كان موعد الملك في الثالثة وكنت أترقب وصوله على أحرّ من الجمر، ولكنه لم يحضر قبل العاشرة، حيث وقفت سيارة ماركة «كاديلاك» حمراء أمام المنزل ونزل منها رجل يرتدي بذلة سهرة سوداء، يا الهي إنه فاروق!! هكذا صرخت لأمي وأنا أضمها إلى صدري فرحا وسرورا بقربه من باب منزلي، وعندما ولج الغرفة أحسست بالدماء وقد تجمدت في عروقي، وشعرت بأنني خرساء حينما طلب مني إعداد فنجان، وحينما قدمته له كانت يدايا ترتجفان فأمسك بهما وقال لي: اهدئي وكوني على طبيعتك، وجلست بجانبه أستمتع برشفاته للقهوة ودخان سيجاره الكوبي، الذي سرعان ما احتفظت بما تبقى منه كتذكار أريه لصديقاتي في مدرسة الأميرة فريال الثانوية، رغم أن والدي نهرني على ذلك، كنت معجبة كثيرا بالملك، خاصة بصورته التي يظهر بها مرتديا زيه العسكري وتلك التي يظهر فيها وهو يحمل سيفا وقناع المحاربين، التي وجدتها رومانسية جدا». تجهيزها لتكون ملكة مصر وتضيف ناريمان «بعد زيارة الملك فاروق لمنزل العائلة، اختفى عني كثيرا وكدت أجن وأفقد الثقة بنفسي، وبعد غياب طويل من الملك، دقّ جرس الهاتف في منزلي وكان على الجانب الآخر الملك فاروق، الذي طلب مني أن أسافر في رحلة إلى أوروبا بصحبة عمي قبل أن يخطبني رسميا، وقال لي: «لقد قررت كل شيء ستسافرين بصحبة عمك مصطفى صادق، وقد قمت بإتمام إجراءات السفر»، وبعد وصول عمي من قصر عابدين، توجهنا إلى إيطاليا، لم تكن تلك الرحلة ترفيهية بالنسبة إلي، بقدر ما كانت رسمية، حيث كانت مرسومة فقط لتعليمي وتدريبي على البروتوكول الملكي، كنت قد سافرت باسم مستعار يحمل «سعاد صادق»، ابنة عم زوجة علي بك، حيث قال لي فاروق وقتئذ: لا تخافي يا عزيزتي أينما ذهبت فستكونين محاطة بجدار من حماية لا يمكن اختراقه». عاشت ناريمان بروما في السفارة المصرية بفيلا «سافويا» وهي المنزل السابق للعائلة المالكة الإيطالية، التي كانت تعيش في هذه الفترة بالإسكندرية، كانت فرحة كثيرا حيث هي، حيث عاشت في غرفة النوم الخاصة بملكة إيطاليا السابقة، وتم تكليف الكونتيسة «ليلى مارتلى»، وهي سيدة كانت من أكثر سيدات أوروبا ثقافة وخبرة، بمرافقة ناريمان لتعلمها التاريخ والسلوكيات العامة وإتيكيت البلاط الملكي، وكانت ليلى تعطي ناريمان ألغازا يوميه فتسألها مثلا عن مكان الجلوس في عشاء رسمي ومن يأخذ الأسبقية بين سكرتير ثان في سفارة وصاحب لقب وبين سفير سفارة أخرى لا يحمل لقبا، وكانت لناريمان مدرّسة لياقة تدربها على النظام والثقافة الخاصة بالجسم، وكانت لديها مدرّسة موسيقى الأوبرا وهى إيطالية وأيضا زوجة دبلوماسي مصري لكي تعمل معها على التعرف على برتوكول قصر عابدين، ودرست ناريمان أربع لغات الإيطالية والألمانية والإنجليزية والفرنسية وكانت تذاكر بجد واهتمام، بعد أن وضع السفير عبد العزيز بدر باشا آخر اللمسات على فصول تدريبها على البرتوكول المصري. على الجانب الآخر، كان الإنجليز يراقبون عن قرب ملكة مصر المقبلة، وكانت إحدى الجاسوسات الإنجليزيات امرأة تم اختيارها لتعطى ناريمان سلسلة من عشرين درسا في الإنجليزية وكان انطباعها عن تلميذتها أنها تعتبر نفسها وطنيه وقوميه بشكل تقليدي وهى تصرّح بكرهها للفكر الشيوعي وروسيا، وتعتقد أن الأغنياء المصريين يجب أن يتحدثوا العربية لا الخليط المعتاد من الفرنسية والعربية، وهى مدركة للفجوة الكبيرة بين الأغنياء والفقراء في مصر ومتلهفة للسفر، لكنها لا تريد العيش في الخارج وتعبر عن اهتمامها بالموسيقى والتاريخ وتقوم بالرسم وتحب السينما والملابس والجواهر والمشي، كما أنها تظهر اهتماما كبيرا بالعائلة المالكة البريطانية فتبحث في المجلات والجرائد عن مقالات عنهم، ومن الواضح أنها مسلمة متدينة وتأسف لأن العديد من الناس في الطبقة الراقية يهملون دينهم، كما أنها معجبة كثيرا بالملك وتقول عنه إنه محب لشعبه يفعل الكثير من أجل بناء بلاده ببناء العديد من المدارس وبناء جامعات جديدة، ولاحظت المدرسة الإنجليزية أن ناريمان تعتبر باريس هي عاصمتها المثالية وليس لندن ولا روما. هدية عيد الميلاد بعد 6 أشهر من سفرها، الذي كان مقررا بأن يكون سنة كاملة، قرر الملك فاروق عودة ناريمان، بعد أن تلقت تدريبها على قواعد البروتوكول وعلى الحياة الجديدة التي تنتظرها كملكة لمصر، وكأن الملك كان يريد أن تكون هدية لعيد ميلاده الحادي والثلاثين ويعلن خطبته من الآنسة ناريمان صادق في الحادي عشر من فبراير 1951، بعد أن أطلت عليهم الفتاة الساحرة بفستانها البديع وهي تضع القليل من الماكياج وبشعرها الذهبي المصفف بطريقة رائعة لتتلقف قطعة الحلوى التي أعدها لها الملك فاروق على طبق من الذهب، ليتم الزواج منها بصفة رسمية في السادس من مايو من العام 1951 في مراسيم ملكية تليق بملك مصر والسودان، ليطيرا سريعا إلى أوروبا لقضاء شهر العسل الملكي على متن اليخت الملكي، لمدة ثلاثة أشهر قضتها الملكة في سعادة حقيقية، قبل أن تعود إلى مصر حاملة بولي عهد الدولة العلوية، لتدوّي طلقات المدفعية (مئة وواحدة طلقة) على صرخات المولود الجديد وولي العهد أحمد فؤاد. حركة الجيش ونهاية المغامرة لم تستمر سعادة الملك فاروق والملكة ناريمان طويلا بمولد ولى العهد الجديد الأمير أحمد فؤاد (أرجعت ولادته بعض العقل لوالده الملك وأثنته ولو جزئيا عن مغامراته الجنسية اليومية)، حيث تصاعدت المشكلات في مصر وتأثرت الحياة السياسية ودخلت البلاد مرحلة مضطربة شهدت خلالها أحداثا جساما أبرزها حريق القاهرة ومعركة الشرطة في الإسماعيلية، التي خسرت فيها القوات المصرية الكثير من رجالاتها، والتي أدت إلى قيام ثورة 23 من يوليو 1952 (بعد سنة من زواج الملك فاروق بناريمان)، التي أرغمت فاروق على التنازل عن العرش وإعطائه الفرصة للخروج من مصر والعيش في منفاه بروما رفقة زوجته الجديدة ناريمان وبناته من زوجته فريدة على متن اليخت الملكي «المحروسة»(وهو نفس اليخت الذي غادر به جده الخديوي إسماعيل عند عزله عن الحكم) في السادس والعشرين من يوليو 1952، لتنتهي بذلك أحلام الفتاة الحسناء التي تهافت عليها الرجال ( قبل أن تصل إلى الملك فاروق كادت أن تصل إلى ضابط في الحرس الملكي هو اليوزباشي صلاح الشعراوي، وبعده محمد زكي هاشم الذي أضحى وزيرا في حكومة جمال عبد الناصر)على دوّي طلقات المدفعية التي أطلقت احتفالا بخروج الملك فاروق من مصر وهي تبكي على حظها العاثر، الذي أضاع منها حلم الملكة. وبعد أن طارا في رحلة الرحيل إلى المنفى باتجاه إيطاليا، عاد الملك فاروق إلى نزواته النسائية من جديد، ليفجر بذلك الخلافات بينه وبين ناريمان، التي سارعت إلى طلب الطلاق (بعد ثلاثة أشهر من المنفى وبعد زواج ملكي دام قرابة الثلاث سنوات)، لتعود إلى مصر وتعقد زواجها من الدكتور أدهم النقيب، تاركة ابنها احمد فؤاد بعيدا عن أحضانها وأحضان مصر والعرش، لتحصل على الطلاق من جديد من النقيب في العام 1964 وتدخل في زواج ثالث مع الدكتور إسماعيل فهمي، الذي تعرف عليها عن طريق الصدفة، حيث يقول «المصادفة هي التي وضعت الملكة في طريقي، كان ذلك عام 1967 وكانت الملكة تمر بوعكة صحية وتحتاج إلى إجراء بعض التحاليل الطبية، فطلب منى ابن عمها الدكتور على عبد الفتاح أن أزورها في الفيلا التي تسكن فيها بمصر الجديدة لآخذ عينة دم من الملكة، وبعد مرور يومين كانت نتائج التحاليل الطبية قد ظهرت وذهبت ثانية إلى الملكة ومعي نتيجة التحليل، وفى هذه المقابلة تحدثت مع الملكة ودار بيننا حوار مشترك وكان الحوار بسيطا ودون تكلّف وطبيعيا جدا ولحظتها شعرت بالتقارب والتفاهم، خاصة أنها كانت تتمتع بحضور كبير وبجاذبيه خاصة، وكرّرت زيارتها مرة ثالثه في الفيلا ولم يطل الوقت بعد ذلك كثيرا، حيث تقدمت لطلب يديها للزواج وتم ذلك دون وساطة من أي شخص وكان رد الفعل منها طبيعيا وتلقائيا. أشياء كثيرة جمعت بيننا، وكما توقعت وافقت على الارتباط بي ووجدت القبول منها سريعا وتم الزواج في شهر غشت عام 1967 وأقمنا حفلا عائليا بسيطا ولم ندع إليه أحدا خارج محيط العائلة، لكن نهاية شهر يناير من العام 1969 كانت بمثابة كارثة بالنسبة لي، فقد تعرضت ناريمان لأزمة صحية صعبة بسبب إصابتها بنزيف داخلي في المخ، والذي فشل الأطباء في علاجه رغم سفرها إلى باريس ودول أخرى للعلاج وزاد من حالتها، رغم شفائها المؤقت، حالة ارتفاع ضغط الدم والصداع الذي أصبحت تعاني منه بدايات عام 2002 وأدى إلى إصابتها بالتهاب رئوي، لتدخل في غيبوبة طويلة في عام 2004 وتنتهي حياتها في الثامنة صباحا من صباح السادس عشر من فبراير 2005. يقول حسنين هيكل في كاتبه الأول «المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل»: «كانت ناريمان قد ابتعدت كثيرا عن الملك في سنوات المنفى، خاصة أمام نزواته النسائية التي لا تنتهي، ففي السابق كانت تقبل بما تراه بعينها وتسمعه بأذنيها لأنها كانت تريد أن تبقى ملكة على العرش، لكن العرش ذهب مع الرياح التي لم تشتهيها سفنها، وصارت نزواته بلا مقابل وانفجرت المشاحنات ووصل الأمر بالملك فاروق إلى أن قال لها يوما أنت جزمه في رجلي، قبل أن يخلع تلك الجزمة ويهوي بها على رأسها بقسوة، نظرا إلى إيمانه الكبير بأن هذه هي الطريقة المثلى في التعامل مع النساء، لذلك جاء القرار من ناريمان حاسما وقاطعا: أريد الطلاق لكي أنسى أني كنت ملكة في قصر الفساد بعابدين ومع زوج ضل طريقه في الحكم وبعده». كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب