«بعض الرجال، سياسيين كانوا أم أدباء، ملوكاً أم رؤساء، عامة أم علماء، أغنياء أم فقراء... لا يستطيعون مقاومة عيون النساء ولا دلعهن، ولا طلعتهن، ولا أصواتهن، وهنّ اللواتي يدخلن إلى القلوب بدون استئذان، فسقط البعض منهم أرضاً من أول نظرة أو كلمة أو ابتسامة، والبعض الآخر بقي يتوهم كالشعراء أن كل امرأة في الدنيا تهيم به وبجماله وبسواد عينيه وأنها لا تستطيع الفرار من بين يديه، فتخلوا عن مبادئ وقيم وعادات وتقاليد وأخلاق من أجل لحظة نشوة وشهوة عابرة، لتظهر خبايا حياتهم التنكرية، التي تحمل ألف وجه ووجه بين ثكنات الحكم والسلطة وبين الجنس، الذي لا ينتهي بعد أن فعلوا أي شيء من أجل رغبتهم الجنسية ومن أجل التخبط في عتمة الليل فوق صدر غانية أو امرأة جميلة أفقدتهم الاحترام وهوت بهم إلى دهاليز النسيان والعالم المجهول، حتى ولو كان ذلك ضد القانون، فقبل البعض منهم أن يكون صفرا، وقبل آخر بأن يكون فاعلا لا مفعولا به. بقيت قصصهم تكبر وتصغر مثل كرة الثلج، منهم من ظلمته الشائعات وأصيب في مقتل، ومنهم من لبس ثوب الحقيقة وعرّى نفسه أمام الجميع دون أن يغطي نفسه بورق التوت، فسقطوا من فوق عروشهم في مستنقعات الرذيلة وحكموا في مواخير الجنس والطرب، حتى أضاع بعضهم حكمه. إنهم ملوك وملكات اختاروا الجنس واللذة على السلطة والحكم. وعرفت أسرار ثورة يوليو المرأة التي أطاحت بعرش الملك فاروق تقول أوراقها الرسمية، التي احتفظ بها أرشيف القصر الملكي، باعتبارها إحدى الوصيفات، أن اسمها ناهد رشاد بكير، ولدت بمدينة حلوان عام 1917 وكانت أمها وخالتها من وصيفات السلطانة «ملك»، زوجة السلطان حسين كامل، شقيق الملك احمد فؤاد، وعمّ الملك فاروق، واللتان التحقتا بالعمل بالقصر عام 1915، أي قبل ولادة ناهد بعامين اثنين، الشيء الذي مكّن ناهد من أن تتنفس عبير القصر وتختلط بالحياة داخل القصور الملكية منذ نعومة أظافرها. عاشت ناهد مع الأميرات الصغيرات داخل أروقة القصر الملكي، باعتبار والدتها وصيفة للسلطانة ملك، وعندما اشتد عودها وقارب سنها الزواج، اختارت لها والدتها الدكتور يوسف رشاد، ابن أحد المحافظين السابقين وطبيب البحرية الملكية، الذي تزوجته في عام 1938 لتلتحق به بمقر عمله بمدينة العريش. تقول ناهد في مجمل أقوالها أمام إحدى المحاكم، بعد ثورة 23 يوليو، واصفة طريقة تعرفها على يوسف رشاد: «كان يوسف ابن جيراننا الذي عشقته من أول نظرة، بعد أن كنت أشاهده دائما رفقة شقيقاته أثناء رجوعهم من المدرسة، كان مفتول العضلات وبطلا رياضيا شارك في العديد من المباريات في الملاكمة ورفع الأثقال، ولعل عضلاته هاته هي التي قرّبته من الملك فاروق، بعد حادثة القصّاصين التي حمل فيها الملك فاروق من طرف يوسف رشاد، الذي تطوّع حينها لوضع الملك على الكرسي مرتين في اليوم صباحا ومساء، حيث وجد الملك فاروق نفسه لا يستغني عن الطبيب يوسف، الذي سرعان ما عينه طبيبا خاصا له وجعله أحد المقربين من حاشيته. حادثة القصاصين مفتاح قلب الملك كان الملك فاروق يقود سيارته الخاصة في الساعة الرابعة مساء من يوم الاثنين 15 نوفمبر 1943 حينما تعرض لحادث أدى إلى كسر في عظام الحوض، بعد اصطدام سيارته بسيارة تابعة للجيش البريطاني على طريق الإسماعيلية بمنطقة تدعى القصاصين). وقد كان لحادث القصاصين قيمة تاريخية في حياة ناهد، أكثر من قيمته بالنسبة إلى زوجها الطبيب يوسف رشاد، ولعل هذا ما أكده وزير الداخلية والحربية السابق مرتضى المراغي في عهد الملك فاروق حين قال: «بعد حادثة القصاصين، لم يكن يوسف وحده الذي ينال إعجاب الملك فاروق، فقد شاركته زوجته ناهد في هذا الإعجاب، حيث كانت صغيرة السن لا يتعدى عمرها آنذاك الثانية والعشرين، ذات عينين سوداوين كعيون نساء المغول، والتي قرر الملك فاروق أن يلحقها كوصيفة لشقيقته فوزية. ويضيف المراغي «كان لحادثة القصاصين دورا هاما في دخول ناهد إلى حياة الملك فاروق وقصره، بعدما أعجب بها وجعلها مقربة من حاشيته كزوجها يوسف أيضا، ولولا جمالها وهيامه بها لعاد يوسف رشاد إلى عمله بالبحرية الملكية، وكان حينها سيمنحه الملك كغيره من المقربين إليه لقب باشا، لكن ذلك لم يحدث إطلاقا، فما يملكه يوسف رشاد من قوة جسمانية (رغم قلة خبرته الطبية مقارنه بأطباء الملك الآخرين أمثال علي إبراهيم وعباس الكفراوي والدكتور أدهم النقيب وغيرهم)، وما تملكه زوجته ناهد من جمال باهر قلّ مثيله في نساء القصر، جاء بعكس ذلك، فقد أصبحا من حاشية الملك المقربين لا يستغني عن وجودهما بقربة وإلقاء تحية الصباح على عشيقته الجديدة ناهد، لتتساوى بذلك مع غيرها من النساء اللاتي عرفن طريقهن إلى سرير الملك فاروق، الذي كان غارقا في حياة اللهو والليل وعشق الغانيات». كانت ناهد من خلال قربها من الملك فاروق قد أضحت على علم تام بكافة تحركاته وأفكاره، حتى تلك التي تجول في عقله، فحاولت التقرب أكثر إلى الملك الشاب، بعد أن تم اختيارها لتكون وصيفة الأميرة فوزية، بعد عودتها إلى القاهرة إثر طلاقها من شاه إيران عام 1945، لتستقر معها بقصر عابدين وتملأ أعينها صباح مساء من طلّة الملك الشاب اليافع، الذي تستهويه النساء الجميلات على زوجته فريدة (صافيناز ذو الفقار)، ولتكون العين التي يرى بها أحوال شقيقته المطلقة فوزية، بعد أن تحولت ناهد إلى جهاز رقابي حتى على السلوك الشخصي للأميرة فوزية، (كانت ثقة فاروق بناهد ثقة عمياء لا تقبل المعلومات التي تأتي بها أي جدال، ولذلك عينها فيما بعد رئيسة الحرس الحديدي للقضاء على خصومه أمثال مصطفى النحاس، هذا الجهاز الذي انقلب على فاروق نفسه بعد زواجه من ناريمان صادق)، وأخذت تفكر شخصيا بالملك بعد لياليها الحمراء معه وأخذت تعد الأيام والساعات التي ستكون فيها إلى جانبه على سدة الحكم وعرش مصر.
الحلم الأشبه بالحقيقة كان هذا الحلم أشبه بالحقيقة، لكنها حقيقة غير كاملة، وتحقق ما كانت تطمح إليه، فوقع الطلاق بين الملك وزوجته فريدة ودخلت بذلك إلى مقاصير الحريم الملكي، بعد أن منحها فاروق لقب وصيفة الوصيفات وأن تكون بجواره كملكة غير متوجة (والكلام هنا لمرتضى المراغي)، بعد أن انجذب إليها فاروق بكل كيانه ووقع في غرامها وأنوثتها الطاغية، ولم يعد يفارقها منذ اللحظة الأولى لتطليقه زوجته فريدة. تقول ناهد في شهادتها أمام محكمة الثورة، بعد الإطاحة بالملك فاروق: «في عام 1945 أصدر الملك فاروق قرارا ملكيا بأن أكون وصيفة للإمبراطورة فوزية، خاصة وأنني كنت قد اكتسبت بعد الخبرات نتيجة مرافقتي لوالدتي وخالتي اللتان كانتا وصيفتين للسلطانة «ملك»، أضف إلى ذلك أن زوجي يوسف أضحى الطبيب الخاص لفاروق، وبالتالي كان وجودي حتميا هناك، أما بخصوص تعرفي المباشر على الملك، فقد كان من خلال الحفل الذي أقيم على شرفه بعد نجاته من حادثة القصاصين، حيث طلب مني الملك شخصيا بأن أكون وصيفة لشقيقته فوزية (كان قد كلفني بذلك قبل عودة فوزية من إيران بخمسة أيام)، ثم لأرافق الملكة فريدة كوصيفة في إحدى رحلاتهما سويّا إلى أوروبا، لكن ابنتي الصغيرة التي كانت تحتاجني كثيرا لأكون إلى جانبها فرضت علي أن أطلب الاستقالة من منصبي كوصيفة، إلا أن الملك رفضها مرتين، رغم إصراري على ذلك، الشيء الذي جعلني أغضب كثيرا، خاصة أن علاقتي بالملك قد أضحت مكشوفة للجميع أثناء وجود فريدة وبعد الطلاق أيضا، وكدت أن أجن في أحد الأيام عندما قال لي الملك فاروق بعد تطليقه لفريدة إنه سوف يتزوجني وأكون إلى جانبه على عرش مصر، فكنت على استعداد للتضحية بزواجي وحياتي من أجل تلك اللحظة التاريخية، لكن ذلك لم يحدث إطلاقا، فقد كذب علي فاروق ليشبع رغبته فقط، وكانت صدمتي كبيرة جدا عندما أخرج من جيبه صورة لفتاة جميلة وقال لي هذه ستكون ملكة مصر، فلم تكن تلك الفتاة سوى ناريمان صادق، التي أضحت الزوجة الثانية للملك بعد فريدة». ولعل هذا ما أثبته وزير الداخلية والحربية في عهد الملك فاروق، مرتضى المراغي، حين يقول في مذكراته: «كانت ناهد على وشك الجلوس على عرش مصر، خاصة بعد انفصال الملك فاروق وفريدة، لكنها صدمت كثيرا عندما عرفت بقصة خطوبته قريبا من السيدة ناريمان، فقد أصابها الهوس ومسّها الجنون، لأن الملك فاروق قد أخل بوعده لها حينما صارحها ذات مرة وهي بين ذراعيه أنه يفكر بالزواج منها لتكون ملكة مصر القادمة، ولسوف يكون له منها وليّا للعهد يحمل اسمه من بعده، لكنها فشلت في هذا، والغريب في الأمر (والكلام هنا لمرتضى المراغي) أن كل حاشية الملك فاروق كانوا يعلمون جيدا مدى العلاقة التي تربطه بناهد ومدى الصلاحيات المطلقة التي منحها إياها الملك، حيث عانى الجميع منها ومن تصرفاتها، وحتى الملكة فريدة، قبل أن يحصل الطلاق بينها وبين فاروق، خاصة أن ناهد كانت تسعى بكل ما أتيح لها من وسائل، سواء أكان ذلك بالإغراء وتمكين فاروق منها عبر أنوثتها، أو بأي وسائل أخرى، لدرجة أنها كانت على استعداد بالتضحية بكل شيء للوصول إلى كرسي العرش». كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب