«بعض الرجال، سياسيين كانوا أم أدباء، ملوكاً أم رؤساء، عامة أم علماء، أغنياء أم فقراء... لا يستطيعون مقاومة عيون النساء ولا دلعهن، ولا طلعتهن، ولا أصواتهن، وهنّ اللواتي يدخلن إلى القلوب بدون استئذان، فسقط البعض منهم أرضاً من أول نظرة أو كلمة أو ابتسامة، والبعض الآخر بقي يتوهم كالشعراء أن كل امرأة في الدنيا تهيم به وبجماله وبسواد عينيه وأنها لا تستطيع الفرار من بين يديه، فتخلوا عن مبادئ وقيم وعادات وتقاليد وأخلاق من أجل لحظة نشوة وشهوة عابرة، لتظهر خبايا حياتهم التنكرية، التي تحمل ألف وجه ووجه بين ثكنات الحكم والسلطة وبين الجنس، الذي لا ينتهي بعد أن فعلوا أي شيء من أجل رغبتهم الجنسية ومن أجل التخبط في عتمة الليل فوق صدر غانية أو امرأة جميلة أفقدتهم الاحترام وهوت بهم إلى دهاليز النسيان والعالم المجهول، حتى ولو كان ذلك ضد القانون، فقبل البعض منهم أن يكون صفرا، وقبل آخر بأن يكون فاعلا لا مفعولا به. بقيت قصصهم تكبر وتصغر مثل كرة الثلج، منهم من ظلمته الشائعات وأصيب في مقتل، ومنهم من لبس ثوب الحقيقة وعرّى نفسه أمام الجميع دون أن يغطي نفسه بورق التوت، فسقطوا من فوق عروشهم في مستنقعات الرذيلة وحكموا في مواخير الجنس والطرب، حتى أضاع بعضهم حكمه. إنهم ملوك وملكات اختاروا الجنس واللذة على السلطة والحكم. بعد أن تم الطلاق بين الملك فاروق والملكة فريدة في التاسع عشر من نوفمبر 1948، لم يستطع الملك أن يسكن القصر الملكي وحيدا دون امرأة حسناء جميلة تملأ فراغ ما تبقى من ليلته وتشبع ما تبقى من رغباته، التي تكاد لا تنتهي، ليبدي رغبته مجددا بالزواج من الجميلة الحسناء ناريمان حسين صادق (ولدت بالقاهرة في الواحد والثلاثين من أكتوبر 1933)، التي انطبقت عليها شروطه المحددة في الملكة القادمة، وهي أن تكون وحيدة أهلها وأن تكون فتاة مصرية لا يجري في دمها أي دماء سورية أو لبنانية أو تركية أو أجنبية، وأن تكون من الطبقة المتوسطة ولا تكون من طبقة الباشاوات، ومؤهلة صحيا وعمريا لأن تكون أمّا لولي عهده... آخر ملكات مصر
لم تكن ناريمان، الطفلة الجميلة، وحيدة والديها، والجميلة الفاتنة وخفيفة الروح (كما يعني اسمها باللغة التركية)، تعلم أنها ستكون آخر ملكات مصر، بعد أن جاءت إلى الدنيا بعد عدة محاولات فاشلة للإنجاب، وأضحى والدها يغار عليها من نسيم الصباح، إلى درجة أن رفض إلحاقها بمدارس اللغات البعيدة وفضّل تسجيلها بإحدى المدارس المصرية القريبة من بيته. يقول عبد الله كمال في مجلة «روز اليوسف» عن زواج الملك فاروق بناريمان صادق: «... كانت ناريمان صادق جميلة رقيقة هادئة كرس لها والداها كل جهودهما، فعرف عنها الأدب الشديد، وبدأ الخطّاب يطرقون بابها مبكرا حتى جاءها العريس، الذي وافقت عليه هي وأسرتها وخطبت إلى الدكتور محمد زكى هاشم، المحامى المعروف، وتم تحديد موعد الزفاف وجاء اليوم الذي ذهبا فيه لانتقاء خاتم الزواج من أحد كبار تجار المجوهرات، ليحدث اللقاء الأول بينهما عند ذلك التاجر، وهو أحمد باشا نجيب الجواهرجي بشارع عبد الخالق ثروت». ويضيف الكاتب «كان الملك فاروق في زيارة لهذا المحل، حيث إنه كان كثيرا ما يتعامل معه، وكان أحمد باشا نجيب الجواهرجي معتادا، في حالة حضور الملك إلى المحل، أن يقوم بإغلاق الباب ويمنع دخول الزبائن احتراما للملك، لكنه لم يفعل هذه المرة، نظرا إلى وجود الحراس خارج المحل (حراس الملك) واللذين كانا يقفان في العادة أمام باب المحل، وتصادف في ذلك الوقت أن ذهب أحد الحارسين لإحضار بعض المشغولات الذهبية الخاصة بالملك من الورشة، أما سكرتير المحل، فقد ذهب هو الآخر لإحضار بعض الجنيهات الذهبية، التي كان الملك قد طلبها، في هذه اللحظة تحديدا كان القدر يحدد مصير تلك الفتاه الصغيرة، التي هيئت لها تلك الصدفة ليحدث اللقاء الأول بينها وبين الملك فاروق، والذي تتوالى بعده الأحداث، كان الملك فاروق في حديث ضاحك مع صاحب المحل عندما دخلت الفتاه الصغيرة المحل ومعها خطيبها، فلم يمنعهما أحد من الدخول، وعندما سمع أحمد باشا نجيب صوتهما، طلب منهما التوقف وعدم الاستمرار في الدخول، وفى تلك الأثناء كان الملك قد انتقل إلى حجرة الخزائن الملحقة بالمحل، بعد ذلك سمح لهما احمد باشا نجيب بالدخول، فقالا له إنهما يريدان شراء حجر من الماس وهو شبكة الخطوبة، وجلست الفتاه على كرسي في مواجهة حجرة الخزائن الخاصة بالمحل، والتي يفصلها عن المحل ستارة صغيرة باللون الأبيض، فشاهدها الملك وأعجب بها وأشار إلى أحمد باشا نجيب وطلب منه أن يعرفهما به، لأنه يرغب في بيع حجر سولتير ويعتقد أنه سيعجبهما، وبعد ذلك أخذ أحمد باشا نجيب رقم تليفون ناريمان، ثم بعد ذلك اتصل القصر بأسرتها وردّت عليه أصيلة هانم والدة ناريمان، وأعطته رقم تليفون والدها في العمل. لم يصدق وكيل وزارة المواصلات حسين فهمي صادق (والد ناريمان) عندما تلقى اتصالا هاتفيا من الملك فاروق يخبره بنيته الزواج من ابنته ناريمان، كان وقع الخبر عليه كالصاعقة وقد بدت على ملامحه معالم القلق والخوف، كان القلق يأتي إليه كون ابنته مخطوبة من المحامي المعروف محمد زكي هاشم، أما الخوف فهو على ابنته من أن تكون تلك الزيجة نزوة من نزوات الملك، فسارع إلى الاتصال بخطيبها زكي هاشم، الذي قدّر حجم الموقف واستقبله بوعي كامل وتم فسخ الخطوبة، رغم أن المخاوف لا تزال تطارد والدها، حيث خوفه الشديد من أن تواجه ابنته الوحيدة نفس المصير الذي لاقته زوجة الملك الأولى فريدة، إلى درجة أن تلك المخاوف جعلته يفكر في الهروب مع أسرته خارج مصر، ليتراجع بعدئذ عن موقفه بعد تحذيره من طرف العديد من المقربين له، وتم الاتفاق على الزواج بينهما، لكن الأمر سيكون سرّا إلى أن يحين الوقت المناسب للإعلان. موعد مع الملك
كانت ناريمان معجبة بالملك فاروق وتحتفظ له بصور شخصية ترى فيها قدرا كبيرا من الوسامة والرجولة، وكانت مشاعر تلك الفتاة الحسناء طبيعية، فمن هي الفتاه التي ترفض الزواج من ملك؟ ربما كانت ظروفها الشخصية وارتباطها بالدكتور زكى هاشم أحد الأسباب التي جعلت قصة لقائها بالملك غريبة وغير منطقية، فهي كانت مخطوبة وحددت مع خطيبها موعد الخطبة، بل ووزعت الدعوات على 500 مدعو، لكن كلام الملوك لا يرد وحياة القصور لا تقاوم والجلوس على العرش شرف لا يحظى به إلا أقل القليل، كل هذا قطعا جال ببالها وهي تتأمل حياتها الجديدة مع الملك وتتخيل خطواتها الأولى داخل قصر عابدين المهيب، وهى تبتسم لكاميرات المصورين وهى تتأبط ذراع ملك مصر والسودان، فأقصى ما تحلم به الفتاه هو الزواج من فارس الأحلام، لكن أن يكون الحلم حقيقة وتتزوج من ملك في حجم ووزن فاروق، فذلك منتهى الحظ والرغبة التي تستهوي الفتاة في ذلك العصر، هكذا عاشت ناريمان اللحظات التي سبقت الزواج، كانت بدون شك تترقب الأيام وتعد الساعات حتى تصل إلى اللقب، وكان فاروق يغذى دائما هذا الأمل ويدعمه، كان يبث شوقه في خطابات غرامية وكان يهاتفها بكلمات جميله ولغة ملكيه راقيه أذابت عقلها، لكن هناك عقبة صغيرة في طريقها لتحقيق ذلك الحلم، وهي أن والدها المحبّب جدا إلى قلبها يمانع هذا الزواج ويرفضه ويعترض عليه، إلى درجة أن البعض يربط بين رحيله المبكر وبين حزنه الدفين على زواج ابنته المرتقب من الملك، وقتها كانت لا تفهم لماذا يرفض الأب هذا الشرف وليس الزواج، كانت دوافع الأب غير دوافعها ونظرة الأب غير نظرتها. كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب