في كتاب «السلطان» للفيلسوف البريطاني برتراند راسل فصل ممتع عن علاقات القادة والأتباع، وفيه يستعرض أربعة نماذج، هتلر ولينين ونابليون وموسوليني، فيعتبر الأولين عقائديين، والاثنين الأخيرين انتهازيين. ويفهم ميشيل كيلو، من المعارضة السورية، مسألة سقوط النظام السوري على أنها ترجع إلى الحواف الحدية في انكسار التوازنات، وهو ما سميته أنا الحافة الحرجة، سواء في الفيزياء أو الثورات، فالماء تتحول طبيعته في الدرجة صفر ومائة فيتبخر ويسبح في السماء غماما، أو ينزل إلى القاع صلبا كالجبال الراسيات، وما أغرق سفينة الجبار «تيتانيك» هو الماء، مع أن السفن تسبح فوق الماء بقانون الطفو عند أرخميدس، ولكن تحول الماء إلى جليد يحوله إلى جبل راسٍ يحطم أعظم سفن الحديد جبروتا، فقد كانت التيتانيك مصممة على أساس ألا تغرق، فغرقت وهي على الماء بضربة الماء الجليدي، وفي أول رحلة. وهذه من تناقضات الحياة البديعة كما وصف الرب نفسه بكونه قادرا على أن يخرج الميت من الحي والعكس صحيح؛ فيزيغ قلوب فريق منهم وتحتار أخرى، يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت، ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب. في نوفمبر 2011م تجاوز عدد القتلى في سوريا خمسة آلاف والمعتقلين ثمانين ألفا والمشردين والنازحين والمهجرين عشرين ألفا، والمفقودين عشرة آلاف. بشار الأسد يقتل الناس بآلة قمع جهنمية في كل قرية ودسكرة وحارة من سوريا، ولكن من ينفذ القتل ليس هو، بل يظهر على الناس بكرافته مذهبة وبذلة رائعة وكلمات حلوة، فمن يقوم بالجريمة إذن؟ إنهم الأتباع والذيول والقفازات. هنا تظهر فلسفة كاملة بين القادة والأتباع تحتاج إلى تحليل في الجدل الإنساني. في كتاب «تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم»، يذكر الضابط محمد الرايس -الذي اشترك في محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في قصر الصخيرات، والقبور التي ضمتهم عشرين سنة، كفاتا أحياء وأمواتا، في مكان لا يعرفه إلا الراسخون في الاستخبارات- أن الأوامر بالقتل، خلال المواجهة الدموية التي جرت مع ضباط القصر ، جاءته فقتل. ولكن «توقع» الشيء غير «مواجهته» وممارسته؛ فعندما خر الضحية صريعا يتخبط في دمه، شعر الجاني في تلك اللحظة بأنه «فقد شرفه». هكذا يقول محمد الرايس في كتابه «تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم». وهملر، رئيس الغستابو النازي، حينما كان يأمر بالقتل الجماعي كان سهلا وبجرة قلم، ولكنه عندما طلب من الجنرال النازي أن يجهز على أحدهم في قبر جماعي يضم حوضا من الجثث والدماء أصيب بنوبة إقياء حادة. واليوم لم يبق من أثر للسجن، فقد أزيل كما بني في غفلة عن أعين الناس، ويزور الناس المكان فيضيئون الشموع على أرواح الضحايا الذين قضوا نحبهم بأشنع الميتات في سجن «تازمامارت» في المغرب. إنها عظة لجميع الأطراف أن المشاكل لا تحل بالانقلابات ولا بالانتقام ولا بدفن الناس تحت الأرض في القبور أو السجون، وأن بذور الكراهية في النهاية لا تحصد إلا نبات الأحقاد، وأن الشر إذا قاوم الشر زاد الشر شرا، وأن الشر يردع بالخير، فهذه نبتة الإنسان.. والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا. إن القارئ يتألم لدى الحديث عن قبور الموت في تازمامارت التي مات فيها معظم الضباط الانقلابيين في المغرب، ولكن لو جلس أولئك على سدة الحكم، هل سيكونون في رحمة النبي يوسف عليه السلام عندما قال لأخوته: لا تثريب عليكم اليوم؟ أم إنها عملة اجتماعية متبادلة؟ منذ عام 1945م، كانت البلدية في مدينة هيروشيما قد وضعت لافتة تذكارية تحمل عبارة «لن نجعلهم يكررون الشر»، ولكنها غيرتها حديثا إلى عبارة أشد دقة: «لن نكرر الشر». إنها آلية قاسية للنقد الذاتي.. إنها اعتراف بأنهم كانوا طرفا في الشر، أليس كذلك؟ وفي معركة «ستالينغراد»، كان المفوضون السياسيون من رجال الحزب الشيوعي يدفعون الشباب الروسي إلى الموت بمئات الآلاف، أولا بزربهم في القطارات كالأنعام إلى الجبهة، ثم حشرهم في زوارق تحت قذف المدفعية والطيران الألماني لخوض مياه نهر الفولغا الباردة التي انقلب لونها إلى الأحمر القاني، ومن تردد أو حاول الهرب سارع «الرفاق» إلى قتله فورا، ومن نجوا من رصاص «الحزبيين» وقاذفات النازيين دفعوا إلى خنادق الألمان فحصدتهم الرشاشات، والأفراد القلائل الذين نجوا فحاولوا العودة من جدار النيران قتلهم «الرفاق» باعتبارهم خونة جبناء لم يموتوا بشرف في الدفاع عن مدينة ستالين. كانت معركة «ستالينغراد» جنازة مليونية ومسالخ بشرية وجنونا مطبقا وعربدة للموت وبحارا من دماء وجبالا من جثث وأنهارا من دموع وزوجات وأمهات تم الضحك عليهن بأنها معركة الشرف من أجل الوطن، كما تفعل الكثير من الأنظمة حتى اليوم فتحتفل ب«عيد الشهداء» أو «الثورة» وهي في الحقيقة أعياد التقدم بالقرابين والخيانة. إن إبراهيم عليه السلام لم يلغ القربان البشري عبثا، وموسم الحج كله يدور حول هذا الترميز. كما أنه غير مفهوم وضد كل منطق أن من يفشل في الانقلاب يصبح خائنا، وإذا نجح سمي بطلا. ذكر الكولونيل هيربرت سيلي، في رسالة كتبها إلى عائلته من الأتون عندما احتدمت حرب الشوارع في ستالينغراد: «إن دموعا كثيرة ستنهمر اليوم في ألمانيا. طوبى لمن ليس مسؤولا عن هذه التضحيات غير المبررة». واليوم، مات ستالين باللعنات، ومات هتلر بالانتحار كما مات القذافي في 20 أكتوبر 2011م ذليلا بعد استخراجه من مجرور مياه، ولم تبق شيوعية أو نازية وقذافي وصدام وإنما ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. والسؤال: من هو المسؤول وغير المسؤول عن هذه القرابين البشرية، هل هو ستالين وهتلر؟ هل هو الجنرال فون باولوس وتشيكوف؟ أم هم الجنود (الأدوات) التي تنفذ الموت بالأوامر؟ إن هذه المشكلة أقضت مضجعي منذ الصغر وأنا أسمع قصة جريمة مؤثرة كانت ترويها لي والدتي، اشترك فيها أكثر من طرف في قتل فتاة. كان السؤال: من هو المجرم؟ من ذبح؟ أم من دل؟ أم من أعان؟ أم من خطط؟ وفي مذبحة صابرا وشاتيلا لم يباشر (شارون) القتل بنفسه ولكنه طوَّق بيت الدجاج ثم فتح كوة فيه دخل منها الثعبان الكتائبي اللبناني، ثم جلس شارون (المسبوت حاليا في ظلال الموت) في الظل بريئا يسمع فحيح الأفاعي وصياح الديكة والدجاج.. تم قتل ألف فلسطيني مثل ذبح الدجاج والخرفان في المسلخ. وكما نرى عن قتل الناس المدنيين في حمص والجامعة العربية تجتمع مثل اجتماع مجموعة من العميان تبحث عن عصا للمشي. رحم الله والدتي كان لها مثل: كومة عمايا على هالعصايه.. كومة من العميان على عصا واحدة. إنه منظر كاريكاتيري، أليس كذلك؟ وعندما همّ اليهود بقتل المسيح وقف بيلاطس يغسل يديه ويقول إنني بريء من دم هذا البريء، فرفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما. إن أعظم مشكلة إنسانية هي علاقة الإنسان بالإنسان في مجتمع بني خطأ على الهرمية والتراتبية والأوامر، وأعظم مرض إنساني قاطبة هو خلل هذه العلاقة بين تسلط واستكانة. حينما ينفرز الناس إلى شريحتين، تصعد قلة إلى قطب «الاستكبار» وتنهار الأكثرية إلى درك «الاستضعاف». ويزداد الفقراء فقرا وتعاسة وذلا، والأغنياء غنى ونفوذا وفسقا، ويمرض الاثنان بالتخمة والمجاعة، ويصاب المجتمع كله بالداء الفرعوني في ثنائية مانوية: الأقوياء أمام الضعفاء، والعبيد تحت السادة، والجبارون فوق الأذلاء، والمستكبرون يسوقون المستضعفين.. إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين. إن تضخم الذات في حوض اجتماعي مشترك يدفع بقية «الذوات» إلى الانكماش والضمور. إنه الداء الفرعوني القديم يتكرر على صور شتى. وعندما ترفع الصور والتماثيل في الساحات العامة لفرد واحد، لا تبقى أمة. وكارثة 67 كانت بسبب قرار من رجل واحد لم يريهم إلا ما رأى وما هداهم سبيل الرشاد. وعندما تختل رافعة القوة في المجتمع، فإن صعود شريحة معناه مصادرة القوة من البقية. وانتفاخ جيوب البعض يعني خواء جيوب الكثيرين. وعندما يرتفع مليونير إلى سدة الثراء، فإنه يعني دفع بقية الرقم دون المليون من الطبقة الوسطى إلى حزام الفقر. إنها سرقة الشرفاء من مجتمع مستباح.. تماما كما في الميزان أو «مراجيح» الأطفال، فإن هبوط كفة أو طرف يعني تلقائيا صعود الطرف المقابل. يقول الغزالي في «الإحياء» إن المال عندما يسقط في يد يكون قد طار من يد أخرى، ليتحول المجتمع إلى مغارة لصوص يسرق كل واحد من جيب الآخر، ويصبح المال دولة بين الأغنياء ويفقد وظيفته ك«دم» في «الشرايين» الاجتماعية. مع هذا، فإن التاريخ يصنعه الأفراد والنخب، وسارت الأكثرية دوما خلف الأقلية المبدعة بآلية المحاكاة والتقليد. يقول ابن خلدون في «المقدمة» إن المغلوب يقلد الغالب في «شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده لما يستولي عليه من توهم «كمال» الغالب»، يقول ابن خلدون: «والسبب في ذلك أن النفس أبدا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه.. لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب.. ولذلك ترى أن المغلوب يتشبه أبدا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه، بل وفي سائر أحواله، وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائما، وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم».