دعيت إلى حضور المؤتمر الأول لوزراء النقل والسكك الحديدية في دول مجلس التعاون الخليجي. موضوع المؤتمر هو النظر في ربط دول المجلس بشبكة مواصلات حديثة، بما فيها إنشاء شبكة سكك حديدية لأول مرة. انصبت مداخلتي على التذكير بأن المشاريع الاقتصادية الاجتماعية الفرعية من مثل مشاريع المواصلات لا تنجح بالمستوى المطلوب ولا تستمر في الزمن، بل وقد تتعثر وتتساقط، إن لم ترتبط بنظرات من قبل القادة والحكومات في الأصول وفي الجذور. وفي اعتقادي، فإن أهم تلك الأصول الاقتصادية المتعلقة بمجلس التعاون هي الآتية: استيعاب جانب الزمن بالنسبة إلى حقبة الثروة النفطية، فهذه حقبة لن تمتد لأكثر من بضع عشرات من العقود. ولأنها كذلك، نحتاج إلى التعامل مع عائداتها المالية كفرصة تاريخية إن ضاعت فإنها لن تعود. إن استعمالات تلك العوائد حاليا تتجه إلى بناء اقتصاد استهلاكي عبثي نهم، يستهلك ما ينتجه الغير ويتجنب بناء القدرات الذاتية لممارسة اقتصاد إنتاجي، وفي أغلب الأحوال يبني اقتصاد خدمات ترفيهية هامشية للبهرجة والتفاخر ويمارس أخطر وأفجع المضاربات في ثروتي العقار والأسهم اللتين بدورهما لا ترتبطان بمنطق الإنتاج أو الأرباح غير الوهمية. وتزداد الصورة الاقتصادية قتامة عندما نتردد أو نخطو ببطء شديد في ولوج اقتصاد المعرفة الذي تتسابق دول العالم للإبداع فيه. وحتى لو ادعت بعض الخطط التنموية لبعض دول المجلس أنها تسعى إلى بناء اقتصاد المعرفة، فإن إحجامها عن إجراء تغييرات جذرية في حقلي التربية والتعليم والبحوث ينبئ بفشل تلك الخطط، فالانتقال إلى اقتصاد المعرفة، الذي يتميز بإنتاج علمي وفكري وتكنولوجي ذاتي تراكمي تنافسي على مستوى العالم، لا يمكن أن يتم بكفاءة عالية إلا إذا صاحبه تعليم إبداعي تحليلي نقدي، من مرحلة الروضة إلى الجامعة، وإلا إذا صاحبه بشكل متواز وجود مراكز بحثية، في الجامعات وخارجها، تتميز بالحرية الأكاديمية وبالاستقلالية الإدارية والمالية، وإلا إذا وجد ارتباط محكم بين نتائج التعليم والتدريب والبحوث، من جهة، وبين حاجات وممارسات مؤسسات المجتمع العامة والخاصة، من جهة أخرى. لقد قاد توفر الموارد المالية الضخمة، في دول قليلة السكان ومتخلقة في كثير من الأمور، إلى استيراد عمالة متنامية العدد من الخارج. مثلا، لقد زاد عدد الوافدين العاملين في القطاعين العام والخاص من مليون عامل سنة 1975 إلى أكثر من أحد عشر مليون سنة 2008، وكان ذلك مقبولا لو صاحبته حركة تهيئة علمية ومسلكية كبيرة لإحلال المواطنين محل الوافدين، ولو كانت أغلبية الوافدين من العرب الذين ينتمون، لغة وثقافة ودينا، إلى مجتمعات الخليج. إن العكس قد حدث، إذ إن نسبة العرب من العمالة الوافدة الإجمالية كانت 72 في المائة في عام 1975، بينما انخفضت إلى 32 في المائة بحلول عام 2008. لكن المشكلة السكانية تضاعفت عندما بدأ المتنفذون وأصحاب المال يبنون مجمعات سكنية هائلة الحجم من أجل بيعها للأجانب، مع إعطائهم الحق في الإقامة لعشرات السنين. ويستطيع الإنسان تصور حجم تلك الكارثة عندما يتكاثر ساكنو المجمعات بعائلات وأولاد وأقارب سيجعلهم يكونون أغلبية سكان دول مجلس التعاون، أغلبية لا تتكلم العربية ولا تنتمي، ثقافة وهوية ودينا، إلى مجتمعات مجلس التعاون. ومما يزيد الأمر سوءا أن فوائض البترول والغاز تستثمر في خارج الأرض العربية لتنمية اقتصاد الآخرين؛ ففي العشر سنوات الماضية بلغت الاستثمارات في الوطن العربي حوالي ثمانين مليارا من الدولارات بمقابل استثمارات وأرصدة عربية وصلت إلى ألفي مليار دولار، ذهب معظمها إلى أوربا والولايات المتحدة. هذه القضايا، وغيرها كثير، ستؤثر على كل نشاط اقتصادي فرعي بصور مختلفة، بعضها بالغ السلبية والمساهمة في التعثر. ومع ذلك، وبالرغم من تلك التحفظات، هناك جانبان ينبغي أن يأخذهما أصحاب الشأن بالنسبة إلى شبكة السكك الحديدية: الجانب الأول يتعلق بضرورة احتساب إنجاز ذلك المشروع في دول مجلس التعاون كمرحلة أولى تتبعها خطوة امتداد المشروع عبر الوطن العربي كله، من الدوحة في قطر إلى تطوان في المغرب. هذه الخطوة يمكن أن تكون مساهمة دول المجلس للتنمية الاقتصادية الاجتماعية في الوطن العربي، خصوصا وأن زوال الأنظمة الدكتاتورية التي كانت ترزح تحت نزوات فرد واحد يغلق بها الحدود ويوقف انسياب العربات قد ولت أو في طريقها إلى الزوال. عند ذاك سيتعامل المشروع مع أنظمة تحكمها الاتفاقيات والقوانين. أما الجانب الثاني فهو أن يكون هذا المشروع، لا مناسبة لإغناء شركات التصنيع الأجنبية فقط وإنما أيضا لجعله فرصة لقيام مشروع صناعة وخدمات نقل عربية مشتركة توطن تكنولوجيا هذه الصناعة التي فيها جوانب بالغة الحداثة. إن مجلس التعاون يحتاج إلى بناء فكر اقتصادي ذاتي منفتح على قلب فرصة ثروة البترول التاريخية لجعلها في خدمة مستقبله ومستقبل وطنه العربي الكبير.