يعتبر كتاب «الشعرية العربية» من أهم الكتب النقدية العربية الحديثة التي تصدت لموضوع شائك في تاريخ النظرية النقدية العربية، ذلك أنه بالإضافة إلى الانفتاح المنهجي الذي يسم العمل العلمي الرائع للمؤلف، فإنه يقدم وجهة نظر أخرى في تاريخ المنجز الشعري العربي منذ العصر الجاهلي إلى الآن، معيدا النظر في الأحكام وفي المنطلقات النظرية وفي النصوص التي اعتبرت المثال على الإبداع الشعري العربي. لقد كان الراحل يملك مفهوما آخر عن النصوص والشعراء، وهذا ما دفعه إلى مزيد من الحفر في المسكوت عنه في الثقافة العربية وفي النص الشعري تحديدا، حيث ذهب إلى الأعماق السحيقة في إعادة كشفه للنصوص المنسية والمحرمة أو تلك التي أقبرتها السلطة السياسية أو الأدبية. ومن تلك المنطلقات جميعا أعاد النظر في مفهوم الشعر وفي مفهوم الشعرية مستندا إلى المنجز النظري للشعرية الأوربية وعلى ما قدمته التأويلية من أدوات ناجعة في تفكيك النصوص. ولكل ذلك، فإن الكتاب يعتبر من الأركان الأساسية التي قدمت النص الإبداعي العربي إلى القارئ الغربي، وبالأخص الفرنسي. وفي هذا الإطار، يمكن التذكير بالتعاون العلمي وروح الصداقة التي كانت تربطه بالمستشرق الفرنسي أندري ميغيل وبالنقاشات التي دارت بينهما، سواء في رحاب السربون أو بعد ذلك في الكوليج دو فرانس، والتي انضم إليها عدد من المثقفين العرب والمهتمين بالآداب الراقية والفكر الاستشراقي الأوربي، تلك النقاشات التي شكلت حلقات علمية أسهمت في إثارة القضايا الجمالية المتصلة بالمخيال الشعري والإبداعي العربي. وعموما، فإن الطروحات الفكرية والأدبية بقيت مجهولة في الدرس الجامعي العربي، ولربما يعود ذلك إلى الترجمة المتأخرة لكتبه إلى العربية، وأيضا إلى حرصه الشديد على الدقة في الترجمة وخوفه من التحريفات التي قد تطال المعاني والأفكار التي يريدها. من جهة أخرى، لا ينفصل ابن الشيخ عن السياق العام للوجود الفرانكفوني العربي في الثقافة الفرنسية، ذلك أن الفرنسية وإن كانت لسانه «الأول» فإن اللغة العربية، بما هي اللغة الأم، ظلت تلح عليه، من حيث الطرح الحاد لمفهوم الازدواج اللغوي وللعلاقة بالآخر، والنظرة الكولونيالية للشمال الإفريقي والعالم العربي، وكل القضايا التي تفجرت بعد ذلك. ولعل وجوده الفاعل في معهد العالم العربي ونضاله من أجل أن يكون المعهد مؤسسة للحوار الفكري والأدبي مع الغرب واشتغاله إلى جانب المغتربين من المثقفين المغاربيين والعرب لهو الدليل الأمثل على اهتجاسه بقضايا الثقافة العربية والإسلامية وحرصه الدائم على أن تقدم الثقافة العربية والإسلامية في الإطار السليم. وسوف يتبدى هذا الولع من خلال المشروع المشترك بينه وأندري ميغيل في الترجمة الفرنسية لكتاب «ألف ليلة وليلة» بعد مرور ثلاثة قرون على الترجمة التي أنجزها أنطوان غالان في عام 1704، وقد صدر الكتاب عن «لا بلياد» في مجلد أنيق وضخم يضم 1250 صفحة، ترجمة الجزء الأول (من أصل ثلاثة أجزاء) من الرواية ويغطي من الليلة الأولى وحتى الليلة 327. وقد وجاء ثمرة عمل شاق ودؤوب أخذ من المترجمين سنين طوالا من البحث في مخطوطات الرواية المحفوظة في المتاحف الفرنسية ثم الترجمة العميقة والمتأنية لمعانيها. وفي تقديمه لترجمة الرواية، يرسم البروفيسور ميكيل معالم المقاربة التي يراها ممكنة للبحث في أصل ألف ليلة وليلة بعد أن يطرح الأسئلة التي يطرحها تاريخها، فالمعلوم أن الغموض ما يزال مطلقا حول أصل «هذا الصرح الخالد» من الحكايات الخيالية العجيبة التي يجهل مؤلفها، وأولى الإشارات عنه عربيا قد تكون ما ورد في القرن العاشر الميلادي في كتاب المسعودي «مروج الذهب» عن مؤلف يسمى «الألف خرافة» من دون تقديم أي تفاصيل تفيد في معرفة أصوله أو مؤلفه أو مؤلفيه، ثم بعد تلك الاشارة اليتيمة، لف الصمت والنسيان ألف ليلة وليلة، لكن من دون أن تختفي حكاياتها متفرقة من التداول بين الناس في الشرق العربي. بيد أن ما هو في حكم شبه المؤكد اليوم هو كون رواية ألف ليلة وليلة «مجمعا لحكايات خيالية تنتمي إلى ثقافات كل من العرب والهند والفرس والروم، ظلت شبه منسية» إلى أن اكتشف المستشرق الفرنسي أنطوان غالان في بداية القرن الثامن عشر مخطوطا لها لدى راهب ماروني بحلب السورية، وعندما شرع في نشر ترجمته في اثني عشر جزءا تباعا ابتداء من عام 1704، لم يدر بخلد غالان أنه سيحقق بعمله ذاك نجاحا عالميا، حيث شكلت أساس كل الترجمات الغربية الأخرى التي تلتها منذ القرن الثامن عشر. لقد ترك رحيله فاجعة كبيرة وفراغا في الساحة الثقافية العربية، هو الذي عاش سنواته الأخيرة في صمت وسكينة مقاوما الداء اللعين. ولقد كان الراحل يحرص على أن يقدم نفسه من زوايا شتى، وهو الشاعر الذي غطت على موهبته تبعات البحث العلمي والأكاديمي، وكان ينظر إليه دائما باعتباره أكاديميا وليس شاعرا. مقاطع من حياته < ولد في الدارالبيضاء في المغرب عام 1930. < تنحدر عائلته الجزائرية من مدينة تلمسان. < أقام في الجزائر مدة سنتين، ما بين 1951 و1953 لدراسة اللغة والقانون، تعرف خلالهما إلى الشاعر جان سيناك الذي خصه فيما بعد بأجمل النصوص النقدية وأقواها. سافر إلى فرنسا لمتابعة دراسته والتحق في نهاية الخمسينيات بجامعة السوربون. < عاد إلى الجزائر عام 1962 ليدرس الأدب العربي الوسيط في جامعة الجزائر، وأنشأ فيها قسم الأدب المقارن، ثم أصدر «الدفاتر الجزائرية للأدب المقارن» التي أشرف عليها إلى غاية 1968. < انصبت دروسه على ديوان «مجنون إلزا» لأراغون، وأدب المقاومة في الجزائر. وبتوقيع مشترك مع جاكلين لوسيت فالانسي، نشر ابن شيخ هذا الدرس في منشورات «هاشيت» تحت عنوان «الديوان الجزائري، الشعر المكتوب بالفرنسية بين 1945 – 1965». تبقى هذه الأنطولوجيا إلى اليوم أحد المراجع الرئيسة في شعر هذه الحقبة. < غادر الجزائر خائباً من جراء فشل الثورة واندحار مثلها العليا ليلتحق مجدداً بباريس سنة 1969، حيث حصل على منصب في المركز الوطني للبحث العلمي، ثم فيما بعد في جامعة باريس الثامنة، المعروفة بفانسان، والتي كانت معقلاً فكرياً وسياسيا،ً نشط في رحابه أعلام مثل جيل دولوز، جاك لاكان، ميشال فوكو... < بدعوة من الجيلالي ليابس، عاد إلى الجزائر عام 1992. ولكن بعد اغتيال هذا الأخير على يد جماعة مسلحة، رفض العودة إلى الجزائر، وتحت ريشته تحولت الأحداث الدامية إلى صك اتهام حلل فيه بقسوة نادرة العنف ورمزيته تجاه الجماعات المسلحة والجيش وتجاه النخبة المثقفة والمبدعة على السواء.