الحقيقة المرة التي يعرفها الجميع هي أن الفساد استشرى في دواليب إدارتنا وفي ثنايا مجتمعنا بشكل مخيف ومقلق، فبلادنا تحتل مرتبة متقدمة بين البلدان التي تنتشر فيها الرشوة، كما أنها من البلدان التي يمكن، بين عشية وضحاها، أن يقفز فيها المرء من وضع مادي متواضع إلى وضع مادي باذخ، إما بواسطة اقتصاد الريع أو الرشوة أو الاتجار في المخدرات أو اختلاس أموال عمومية أو النصب والاحتيال... والأمثلة على ذلك كثيرة، منها ما يتداول في المجالس الخاصة ومنها ما تتناوله الصحافة. فجريدة «المساء»، مثلا، تطلعنا، من حين إلى آخر، مشكورة، على نماذج من المفسدين الذين تزكم رائحة فسادهم الأنوف وتقزز النفوس وتنذر بالمخاطر المحدقة بنا كدولة وكمجتمع وكأمة؛ فخلال شهر شتنبر المنصرم وحده، أوردت الجريدة حالتين من الاغتناء، يعلن فيهما الفساد عن نفسه بشكل لافت وبوقاحة توحي بأن صاحبيها مطمئنان إلى أن لا أحد سيسألهما يوما عن مصدر ثروتيهما، فالوضع المادي الذي وصلا إليه يستحيل أن يكون بطرق مشروعة، خصوصا وأن الأمر يتعلق بموظفين عموميين؛ فأن يصل موظف في فاس تابع للأمن الوطني إلى ذلك المستوى الباذخ الذي أوردته الجريدة في ركنها اليومي «سري للغاية» في أحد أعدادها الصادرة خلال النصف الأول من شهر شتنبر الماضي، رغم حداثة ترقيته إلى السلم الحادي عشر في سلك الوظيفة (مع العلم بأن ذلك المستوى المادي الذي «ينعم» به حاليا لن يستطيع أن يصل إليه براتبه الشهري حتى ولو بدأ حياته الإدارية في السلم 11 ووفر الراتب كله طيلة سنوات خدمته في الإدارة)، أمر يقوم دليلا على الفساد «الباذخ»؛ وأن يراكم مسؤول عسكري في الإنعاش الوطني بمكناس «ثروة ضخمة تشمل أراضي وعقارات وسيارات فاخرة مسجلة بأسماء أفراد أسرته»، بعد أن كان «مجرد عسكري براتب شهري متواضع قبل أن ينتقل إلى «وادي لاو» ويشغل مهمة في خفر السواحل في المنطقة الشمالية ليستقر (...) في مكناس بعد فترة قضاها في الحامية العسكرية بالمدينة» (نفس العمود بتاريخ 23 شتنبر 2011)، لهو أكبر دليل على أن الفاسدين لا يخفون فسادهم لأنهم مطمئنون إلى أن لا أحد سيحاسبهم، خصوصا إن كانوا مسنودين من ذوي النفوذ، كما هو الحال بالنسبة إلى المثالين اللذين أوردتهما «المساء». هذا، وقد سبق ل«رشيد نيني»، قبل أن يتم اعتقاله ومحاكمته ليس بمقتضى قانون الصحافة بل بناء على فصول من القانون الجنائي (وفي ذلك اعتداء على حرية الصحافة وحرية التعبير)، أن تطرق، في عموده اليومي «شوف تشوف» (والذي بسببه يحاكم وبسببه يقبع في السجن في ظروف لاإنسانية)، لموضوع اغتناء بعض مسؤولي الإدارة الترابية، أتذكر من بينهم الوالي السابق لجهة مكناس-تافيلالت الذي أصبح، حسب كاتب العمود، يتوفر على حساب بنكي سمين وضيعات فلاحية، بعد أن كان يستجدي، بمقاهي الرباط، ثمن قهوته بعد عودته من الولاياتالمتحدةالأمريكية التي كان يعمل بها موظفا في سفارة المغرب. والمثير في ما أشارت إليه جريدة «المساء» (الجمعة 23 شتنبر) وهي تتحدث عن العسكري البسيط الذي أصبح من أصحاب الثروة الضخمة، هو أن السلطات القضائية «لم تفتح تحقيقا بخصوص مصادر هذه الثروة رغم أن المعني بالأمر تربطه علاقة غامضة بأشخاص مشكوك في ذممهم المالية ولهم ملفات أمام القضاء»؛ وتضيف الجريدة: «وعزا مصدرنا سبب هذا التلكؤ في فتح تحقيق مع الشخص المذكور إلى كون الأخير يستغل اسم أمير في المدينة في كل تحركاته الغامضة»، ولا شك أن الرأي العام المحلي يدرك مغزى هذه الإشارة ومن هو المقصود بها. أما في ما يخص الأحاديث الخاصة، فقد قادتني الصدفة إلى أحد مقاهي مدينة مكناس حديثة الافتتاح، حيث وجدت نفسي مجاورا لشخصين كانا يتجاذبان أطراف الحديث وهما يحتسيان قهوتهما الصباحية. وكنت أتصفح الجرائد حين بدأت أهتم بما يدور من حديث في الطاولة المجاورة، ذلك أن أحد الشخصين استبد به نوع من الانفعال، وبدأ يرفع صوته دون الاكتراث لمن حوله؛ وقد فهمت من كلامهما أن أحدهما رجل أعمال، فيما الآخر إما صحافي أو مسؤول نقابي أو محام... المهم أن حديثهما كان يدور حول الضريبة. ومن أخطر ما كان يوضحه رجل الأعمال لمخاطبه هو التلاعب الذي يتم في استخلاص الضرائب. بالطبع، يتعلق الأمر بالضريبة على الشركات والمقاولات، حسب ما فهمته. ومما قاله رجل الأعمال لجليسه أن المصالح المختصة يمكن أن تحدد مثلا مبلغ 20 مليار درهم كسقف ضريبي يجب استخلاصه من جهة ترابية ما، وسيوفر المسؤولون عن استخلاص الضرائب هذا المبلغ للخزينة، مهما كانت الظروف؛ لكن المشكل يكمن في التلاعب الذي قد يتم في طريقة الاستخلاص. وقد أصخت السمع لمحاولة فهم الأساليب المستعملة في التلاعب الضريبي، ففهمت أن المقاولين النزهاء الذين يؤدون الواجبات المستحقة (مثل واجبات صندوق الضمان الاجتماعي وغيرها) ولا يتملصون من أداء ما بذممهم من ضرائب، هم من يصبحون ضحايا هذا التلاعب. كيف ذلك؟ من الأمثلة التي تمكنت من التقاطها أن مقاولا ما قد تكون بذمته 400 مليون سنتيم كمستحق ضريبي، ويتهرب من الأداء بحجة من الحجج، فيتم الاتصال به لعقد الصلح (أو المفاهمة)، ليحصل الاتفاق على أن يؤدي للخزينة 50 أو 60 مليون سنتيم، وعلى أن يكون من نصيب مستخلص (أو مستخلصي) الضريبة 40 مليون سنتم أو أقل أو أكثر؛ لكن المتهرب من أداء الضريبة يربح في هذه العملية 300 مليون سنتيم. يتبع...