د. منى إلياس أجرت مجلة «الآداب اللبنانية» عام 4591 دراسة موسعة حول منافسة «لغة» الصحافة العربية الناشئة والإذاعة والتلفزيون للغة العربية الفصحى، وخاصة لغة الكتاب العربي، حيث لم يكن الأنترنت ولا «فيسبوك» في تلك الفترة وكل تلك المنافسات الحديثة والشائعة التي تعمل على تطويع اللغة لتسهيل تناول هذا الكتاب. وقد خلصت إلى النتيجة التالية على «لغة» الكتاب العربي أن تشعر بالخطر الداهم (مستقبلاً) فتعد للأمر عُدّته وتتجهز بكل ما من شأنه أن يكفل للغة الكتاب وموضوعاته، أيضاً، البقاء من جودة في المادة وجمال في العرض، وإتقانه. وعندي أن الكتاب العربي سيعيش إلى جانب الصحافة والإذاعة والسينما، ولكن ستنحط موضوعاته وستزداد لغته انحطاطاً على مرّ الأيام، بسبب مماشاته «الأهواء» وتملّقه الجماهير، سعياً وراء الرواج والرغبة في الاستثمار. إذا تركنا المواضيع المعقدة والمتشابكة للكتاب العربي اليوم وأخذنا جانب اللغة وانزلقنا إلى التساؤل حول «اللغة العربية» فسوف نكتشف حقيقة لا يجهلها أحد منا، وهي أن مشاكل عديدة تواجه العرب ولغتهم، أهمّها ذلك الجفاء الذي تعاني منه اللغة العربية والجفوة التي يحس بها معلمو اللغة العربية تجاه هذه اللغة الجميلة ليس من طلابهم فقط، وإنما من معلمين وكتاب ومفكرين. ونحن، حينما نسأل أنفسنا «لماذا هذا الضعف العام؟»... لا نجد جواباً شافياً عنه، وسر الصعوبة في الإجابة عن هذا السؤال هو أنه ليس من جواب واحد، ولا عامل وحيد يمكننا أن نُحمّله المسؤولية أو فرد نستطيع أن نلقي بالتبعة على كاهله، فلا أظن أن نظام الكتابة بمفرده أو صعوبة النحو (القواعد) أو مدرسة الكوفة أو البصرة أو زيد أو عمرو مسؤول عن هذه المعضلة، ومن ثم لا أظن أننا سنحل المشكلة بتوجيه النقد المؤدب أو اللاذع، فالمشكلة أعقد من ذلك وربما تكمن في عدة أسباب أهمها: -نظرة المجتمع الخاطئة إلى أن استعمال اللغة السليمة هو شأن علماء اللغة ومدرّسيها والأدباء، ولذلك نسمع العبارة المتكررة من أفواه المثقفين وهي تطلب المعذرة إذا أخطؤوا في لغة محاضراتهم أو أحاديثهم (حيث إنهم ليسوا متخصصين في اللغة الغربية).. وهذه النظرة ليست مؤسفة فحسب، بل هي خطيرة جداً، لِما لمثل هذه الفكرة من آثار سيئة على لغة مثقفينا وعلمائنا. وعليهم أن يعلموا أن أول علامة مميزة للثقافة والمثقفين وعنوان للحضارة والتحضر هي اللغة (حتى إن علماء اللغة في البلاد الغربية يؤكدون أن اللغة الرسمية هي لغة المثقفين من أبنائها). ولكن لومنا لهذه الفئات من المثقفين يجب ألا يُنسيَّنا أن الأمر لا ينتهي عند هذا الحد، فلنا أن نسأل: هل هناك عوامل أخرى جديرة بالدراسة، ومنها ظاهرة الازدواج اللغوي الحاد في العالم العربي، نظراً إلى الاختلاف الكبير بين اللهجات المحكية واللغة الرسمية (الفصحى) على مستوى النحو والصرف بوجه خاص، نتيجة كونها تسجيلاً لتلك القواعد إبان أوج النضوج اللغوي للغة العربية الأدبية، قبل ما يربو على القرون العشرة، وتأثر ذلك التسجيل بالفلسفة والمنطق واعتماده لغة الشعر إلى حد كبير، إضافة إلى ندرة المراجع المبسطة في اللغة وقواعدها، من معاجم وكتب في النحو والأساليب. فالعرب لم يخدموا اللغة الفصحى في عصورهم المتأخرة كما يجب، ولا أدلَّ على هذا من العجز الكبير الذي تعاني منه المكتبة العربية في الكتب اللغوية الحديثة من كتب مُبسَّطة في النحو والصرف وأصوات اللغة ومفرداتها، فمثلاً كم منّا يعرف كيف يبحث عن كلمة ما في معجمي «تاج العروس» أو «لسان العربط... إلخ؟. لا شك في أن كثيراً من القواعد التي يُطلَب من التلاميذ دراستها في المدارس قد لا تمتّ إلى حاجاتهم بِصلة مباشرة أو حتى غير مباشرة أحياناً، ومن ذلك الاصطلاحات الكثيرة التي يطلب إلى التلميذ حفظها عن ظهر قلب، فلكي يتعلم الطالب، مثلاً، استخدام كان وأخواتها ويعرف أنها ترفع المبتدأ وتنصب الخبر.. يجد نفسه ملزماً بحفظ اصطلاحات كثيرة، مثل الفعل الناقص، الفعل الناسخ وأفعال المقاربة والرجاء والشروع إلخ.. ما يضيع على الدارس الهدف من قاعدة بسيطة كهذه.. ثم هناك الأبواب الخاصة بأمور نظرية بل تاريخية أحياناً كالإبدال والإعلال مثلاً، والأمثلة على هذا أكثر من أن تحصى في مقال كهذا، إضافة إلى الطرق التعجيزية لتدريس اللغة العربية وقواعدها في المدارس بشكل خاص، والبعيدة كل البعد عن الطرق العلمية الحديثة المستعمَلة اليوم لتدريس اللغات، كالوسائل السمعية البصرية وغيرها، التي تُمكّن الطالب من استعمال الفصحى بطريقة سليمة، سواء أكان ذلك في المجال الشفهي أو المكتوب وبطريقة يسرة وشائعة إن لم تجذب الطالب، فهي على الأقل لا تنفّره كما يحدث كثيراً في وضعنا الحاضر للأسف.