لم تتم المصالحة بين وزارة الثقافة والمثقفين «اليساريين»، أو المحسوبين على اليسار، بشكل كلي، ومفرط، ربما، وأعني بشكل خاص «اتحاد كتاب المغرب»، إلا مع حكومة التناوب التي أسندت فيها وزارة الثقافة إلى رئيس سابق لاتحاد كتاب المغرب، وهو عضو في المكتب السياسي للحزب. كما أن المصالحة لم تحدث في إطار تعاقدات أو اتفاقيات مكتوبة بين الوزارة وبين المؤسسات الثقافية، وفق برامج بعيدة المدى وقابلة للتحيين والتجديد، بما تفرضه المتغيرات الثقافية والفنية، وأيضا وفق سياسة ثقافية أو استراتيجية ثقافية تكون بمثابة خارطة الطريق التي يتم، في ضوئها، تفعيل هذه الاتفاقيات وحفظ مصالح الطرفين وضمان استقلالية كل طرف عن الآخر. إن ما حدث كان عملا مع شخص الوزير أو مساندة غير مشروطة للسياق السياسي لحكومة «التناوب». كان الأمر نوعا من الامتيازات التي حظيت بها أطراف مختلفة، إما لها علاقة مباشرة بشخص الوزير أو علاقة ولاء سياسي للحزب، الذي كان يرأس حكومة التناوب، ولم يتم في إطار مؤسسي. فأهمية الثقافة، كما يرى فانسون دوبوا، تكمن في مأسستها (لا في تسييسها)، أي في الحرص على دمقرطة الحقل الثقافي. حدث هذا في مجال النشر، كما حدث في دعم أنشطة اتحاد كتاب المغرب وبيت الشعر، وفي التعامل مع بعض الفنانين والفرق المسرحية، ومع جمعية الائتلاف التي كان وراء وجودها وزير الثقافة نفسه، كما حدث في ما كانت توجهه الوزارة من دعوات إلى الكتاب والشعراء، والمشاركة في ندوات ولقاءات المعرض الدولي للكتاب، وما يجري خارج المغرب من لقاءات ومهرجانات، وغيرها مما أصبح، في هذه الفترة بالذات، نوعا من الريع الثقافي الذي كان فيه نصيب الأسد للمقربين إلى وزير الثقافة أو الموالين له والمنتسبين إلى حزبه. كل ما حدث من اتفاقيات وما أقامته الوزارة من شراكات لم يكن مبنيا على سياسة ثقافية تخص الوزارة، أو المؤسسة الوزارية، مما دفع وزيرا من نفس حزب الوزير السابق، إلى أن يلغي كل الاتفاقيات، أو يعطلها، ويعمل، وفق منظور خاص، على استحداث أفكار أدت إلى وضع الوزارة في مواجهة المثقفين، خصوصا من وجدوا أنفسهم خارج الريع الثقافي الذي كان أحد أسباب الهدنة التي حدثت من قبل بين الوزارة وبين هذه الشريحة من المثقفين. لم يسبق لهذه الشريحة من المثقفين أن فتحت نقاشا حول «السياسة الثقافية» للوزارة أو فكرت في اقتراح استراتيجية ثقافية تكون أرضا للعمل الثقافي، الذي يمكن أن تتبناه الدولة أو تعمل على إدراجه ضمن جدول أعمالها. كما لم يسبق لهؤلاء، أو للمؤسسات التي ينتسبون إليها، أن عملوا على تحديد موقفهم من «التناوب» أو صيغة الشراكة الثقافية الممكنة في ضوء هذا المعطى الجديد، وهو ما يحدث عادة في المؤتمرات أو الجموع العامة لهذه المؤسسات. لا شيء من هذا حدث، والنتيجة كانت هي هذا الارتجال الفادح الذي أفضى باتحاد كتاب المغرب إلى ما هو عليه من تفتت وارتباك ومن فوضى، في كل شيء، وهو ما ينطبق على وزارة الثقافة في وضعها الراهن. ما ظهر، في الآونة الأخيرة، من مبادرات فردية من بعض المثقفين المستقلين، بالدعوة إما إلى عقد لقاءات وطنية حول الشأن الثقافي تكون خارج غطاء المؤسسات، كيفما كانت، لأجل وضع «مشروع ثقافي جديد، بلغة وبقيم ثقافية جديدة» تساير ما جرى من تحولات، ووفق منظور متحرر من إكراهات السياسة أو التبعية للدولة، مع الحق في الاختلاف وفي حرية الرأي والتفكير، كما في النداء الذي توجهت به إلى المثقفين المغاربة أو ما جاء في الدعوة إلى «ميثاق وطني حول الثقافة» الذي وقعه الشاعر عبد اللطيف اللعبي باسمه الشخصي، أو ما عقد من لقاءات، في المكتبة الوطنية، دعت إليها أطراف أخرى بعد مقاطعة المعرض الدولي للكتاب، كلها كانت تعبيرا عن المأزق الحقيقي الذي تعيشه الثقافة اليوم في بلادنا، والإهمال المتعمد والمقصود من قبل الدولة ومن قبل الأحزاب التي ظهر أنها كانت تفتقر إلى مشروع ثقافي واضح، وأن الثقافة لم تكن بالنسبة إليها سوى تزكية لخطابها السياسي. فأن يمر من وزارة الثقافة وزيران، من نفس الحزب، وهما عضوان في اتحاد كتاب المغرب، ومثقفان، دون أن يكون لهما تصور واضح للشأن الثقافي أو دون أن يتركا وراءهما أثرا لمشروع وطني أو لسياسة تخص الثقافة، أو يعملا على وضع الثقافة ضمن السياسة العامة للدولة أو ضمن البرنامج العام للحكومة، فهذا يعني، أولا، أن الحزب الذي وضعهما في هذا المكان ليس له تصور ثقاف أو أن الثقافة لا تعني له شيئا، قياسا بغيرها من الاهتمامات الأخرى؛ وثانيا، أن اتحاد كتاب المغرب، الذي جاء منه الوزيران، هو الآخر لا يملك هذا التصور، وليست له أفكار محددة يمكن أن تكون أرضا لهذا المشروع؛ وثالثا، أن الوزيرين، باعتبارهما مثقفين، يفتقران إلى وضوح الرؤية بشأن الثقافة، واكتفيا بتنفيذ برامج ليس لها أفق ثقافي مشترك، كما لو أن الوزارة هي جمعية مثل باقي الجمعيات من حيث طبيعة البرامج والأنشطة التي تقوم بتنفيذها، ليس أقل. أي دور كان للأحزاب، في ما اقترحته من إضافات أو تعديلات على الدستور، في ما يتعلق بالشأن الثقافي؟ وهو ما يسري على المنظمات الثقافية، المعنية قبل غيرها، بكل ما له علاقة بالثقافة؟ ما الذي أضفاه الدستور الجديد على الثقافة من أهمية؟ وهل للثقافة مكان محدد في هذا الدستور، فحين يشير الدستور إلى «سياسة لغوية وثقافية فاعلة ومنسجمة» وإلى «مجتمع المعرفة»، وفق أي منظور ووفق أي آليات للعمل؟ فالإشارة إلى «إحداث مجلس وطني (وليس أعلى) للغات والثقافة المغربية» فيها كثير من الالتباس ولا تعفي طبيعة هذا المجلس من الاختلال في عمله وفي التأويلات التي يمكن أن تفضي به إلى العمل في وفق إطار عام، ملتبس وغير واضح. «البيان الديمقراطي» لم يكن بيان حزب أو بيان مؤسسة سياسية، في تسميته ما يشير إلى أنه بيان سياسي، لكن الموقعين عليه هم مثقفون، أو بعض المثقفين، ممن يعملون في مجالات الفكر والنقد والإبداع، للسوسيولوجيين والأنثروبولوجيين مكانهم في البيان. جاء البيان في سياق ما تقترحه هذه الفئة من المثقفين، دون غيرهم، من أفكار حول التعديلات الدستورية الأخيرة. البيان جاء متأخرا، وهذا في حد ذاته يشي بكثير من الأسئلة وعلامات الاستفهام، رغم أن المؤسسات الثقافية المعنية بالشأن الثقافي قدمت مقترحاتها بطلب من اللجنة المكلفة بتعديل الدستور، كما أن البيان كان استعادة لمجمل ما كان متداولا في النقاش العام وفي ما اقترحته بعض الأحزاب والمنظمات، ثم إن البيان ظل قريبا من السياسة، بعيدا عن الثقافة وعن انشغالات المثقفين، مما يعني، مرة أخرى، تأجيل السؤال الثقافي لصالح ما هو سياسي. لغة البيان هي نفسها اللغة التي كنا نسمعها في البيانات الختامية لمؤتمرات اتحاد كتاب المغرب. ماض يستعيد نفسه من خلال حاضر لم يعد يقبل التكرارَ أو البقاءَ في نفس المربع، ليست شروط أواخر القرن الماضي هي نفس شروط بدايات الألفية الثالثة، بأسئلتها وطبيعتها المعرفية والثقافية. بدل أن يكون البيان، كما انتقدناه في مقال سابق، خطوة إلى الأمام، عاد خطوات إلى الوراء وعمل على تكريس الفرقة والإقصاء والتشرذم في صفوف المثقفين، ولم يكن ذا فائدة في ما جاء في مشروع الدستور، لأن البيان صدر بعد انتهاء الأجل المحدد لتقديم الاقتراحات، وهذا في حد ذاته يدل على جدية واهتمام الموقعين على البيان وحرصهم على مواكبة ما يجري ! ليست الثقافة قيمة مضافة، وليست ورقة تستعمل عند الحاجة؛ فالثقافة طريق أو هي الماء الذي يضفي الحياة على باقي قطاعات الحياة اليومية، وهي الدم الذي بدونه يفقد المجتمع حيويته ويصبح بلا معنى، أعني بلا حياة. في الفكر، في الإبداع، في الصورة وفي تعبيرات الجسد، وغيرها من التعبيرات الجمالية المختلفة، يمكن أن نعبر عن فرادتنا وعن رؤيتنا للواقع وعن اختلافاتنا. لكن حين يتعلق الأمر بالشأن العام وبتعاملنا مع الدولة أو مع بعض مؤسساتها أو ما يخص السياسة العامة للبلاد أو التفكير في أرضية أو أفق لمشروع ثقافي، هنا علينا أن نترك الحسابات الصغيرة جانبا، لننظر إلى المستقبل، إلى ما يمكن أن نتركه لمن سيأتي بعدنا من قيم ومن تشييدات، بدونها سنبقى رهيني حاضر لا مستقبل له. هذا يسري على السياسة، كما يسري على حسابات المسؤولين في القطاعات الحيوية، ومن يضعون الخطط والبرامج، والمنتخبين ممن أمنهم الشعب على خبزه ومائه. انتهى/ صلاح بوسريف