تتضارب الأخبار والتعليقات حول مكان وجود اليعقوبي الذي أطلق النار على الشرطي طارق محب. فمن قائل أنه نزيل جناح للمرضى النفسيين خاص بأبناء الطبقة المرفهة في مستشفى الرازي، ومن قائل أنه طار إلى إيطاليا لكي يتابع علاجه هناك. وخلال كل هذا الوقت لا المستشفى أرسل بيانا إلى الرأي العام يخبره بوجود اليعقوبي عندهم من عدمه، ولا النيابة العامة أصدرت قرار المتابعة في حقه، ولا وزارة التشريفات والأوسمة أصدرت بلاغا تشرح فيه موقف القصر حول ما اقترفه أحد أفراد الأسرة الملكية في حق شرطي كان يقوم بواجبه. ولا حتى شكيب بنموسى عقد ندوة صحافية لكي يقدم للرأي العام الرواية الرسمية لما وقع. البلاغ الشفوي الوحيد الذي أصدره عبد الحق المريني هذه الأيام هو «تعبيره» لإحدى اليوميات عن انزعاجه من العنوان الذي وضعته إحدى المجلات النسائية المغربية لحوار أجرته معه ونشرته في عددها الأخير، قالت فيه أن مسؤولية المريني في اليدوان الملكي تكليف وليست تشريفا. فسارع المريني إلى توضيح اللبس الذي يمكن أن «يلعب» عليه بعضهم في حاشية القصر، مستغلين هذا العنوان لكي يوغروا صدر الملك ويقولون له أن عبد الحق المريني لا يتشرف بخدمتكم وإنما يقوم بما يقوم به فقط لأنه مكلف. وحتى عندما رأينا كيف سارعت النيابة العامة بأكادير لمتابعة محمد الراجي بسبب مقال رأت فيه إخلالا بالاحترام الواجب للملك، لم نسمع أن جهة قضائية واحدة في المغرب تجرأت على رفع دعوى قضائية ضد مجلة «إبوكا» الإسبانية التي وصفت الملك على غلاف عددها الأخير بالملك المورو. والجميع يعرف الحمولة العنصرية لكلمة «مورو» في إسبانيا. إن هذا الصمت الذي تغرق فيه المؤسسات السيادية في المغرب، مع وجود ناطقين باسمها، لا يخدم صورتها في شيء. والتعويل على الوقت من أجل دخول قضية اليعقوبي في غياهب النسيان لا يخدم لا صورة العدالة المغربية ولا صورة الأمن في شيء. كما أن تصوير مطالبة الحقوقيين بتطبيق القانون حتى ولو تعلق الأمر بصهر الملك، تقليلا للحياء على الملك وعائلته، واستهدافا للمؤسسة الملكية، ليس سوى محاولة لتحريف الأمور عن مسارها الصحيح. الأمر يتعلق بخطأ موجب للمحاكمة اقترفه أمام الملأ شخص معروف، ولا علاقة لمتابعته قضائيا بأي استهداف أو تقليل للحياء على المؤسسة الملكية. بالعكس، كانت ستكون محاكمته، إذا تمت فعلا، دليلا قاطعا على وجود رغبة حقيقية في جعل القانون فوق الجميع. ويبدو أن الصمت والمراهنة على الوقت لطي الجراح والمظالم، لا تحترفه المؤسسات السيادية وحدها، وإنما حتى بعض المؤسسات الرياضية كوزارة الشبيبة والرياضة. فمنذ مدة لم نعد نسمع عن لجنة تقصي الحقائق التي طالب بها البرلمان بعد شوهة بكين. والصمت في المغرب لا يشمل الهزائم فقط، بل حتى الانتصارات. وإلى اليوم استطاع المنتخب المغربي لألعاب القوى المشارك في دورة بكين لذوي الاحتياجات الخاصة التي يتابعها تسعون ألف متفرج يوميا أن يرفع العلم المغربي عاليا ثماني مرات في «عش الطائر»، وأن يعزف النشيد الوطني أربع مرات، بعد فوز العداءة سناء بنهمة بأربع ميداليات ذهبية في سباقات 100 متر، و200 متر، و400 متر، و800 متر. لقد انتقم المعوقون الرياضيون المغاربة لأصحاب الأجساد السليمة في المنتخب المغربي لألعاب القوى الذي شارك في بكين. إلى درجة أننا بدأنا نطرح أسئلة حول من هم المعوقون الحقيقيون في هذه البلاد. هل هم أولئك الذين يذهبون على أرجلهم لتمثيل المغرب في المحافل الدولية، أم أولئك الذين يذهبون إليها وهم يتلمسون طريقهم بالعكاكيز بسبب إعاقة النظر. خصوصا بعد أن رأى الجميع في «يوتوب» و«دايلي موشن» كيف يستعد لاعبو المنتخب المغربي لكرة القدم لمباراتهم ضد المنتخب الفرنسي بالشيشة و«المعسل» في مقاهي «الشانزيليزي». إن الصمت الإعلامي الرسمي حول الإنجازات الباهرة لهؤلاء الرياضيين المعوقين المغاربة لا يدل فقط على النظرة الدونية والسلبية التي تكنها الدولة والحكومة لهذه الشريحة من المواطنين، وإنما تدل أيضا على غياب الرغبة الرسمية في تشجيع قيمة الانتصار والتفوق والنجاح. فالقيم الوحيدة المسموح برعايتها والترويج لها هي قيم الفشل والاندحار والهزيمة. ولهذا السبب قال العداء المغربي «المونشو» آيت خموش لجريدة «الباييس»، عندما منح المنتخب الإسباني ميداليتين فضيتين في بكين، أنه فخور بحمله للجنسية الإسبانية وأنه لن يفكر أبدا في العودة إلى المغرب، لأن إسبانيا أعطته كل شيء وعوضته عن التهميش الذي عاشه في المغرب. إن قصة آيت خموش جديرة بفيلم سينمائي. فهذا الشاب الذي ذهب من قريته النائية والفقيرة بنواحي الرشيدية إلى الشمال المغربي، استطاع أن يحقق حلمه بالوصول إلى إسبانيا فوق قارب من قوارب الموت، بعدما يئس من حاله، واقتنع بأن مكانه كصاحب إعاقة لا يوجد بالتأكيد في المغرب. فحتى الذين لديهم ذراعان لا يستطيعون ضمان مستقبلهم، فكيف سيضمنه هو بذراع واحدة. وبعد محاولات فاشلة كادت تحوله إلى لقمة سائغة لأسماك القرش في مياه المضيق، سينجح في الوصول إلى الضفة الأخرى. هناك سيتابع تدريبه في رياضة الجري بمركز الإيواء الذي استقبله في مدريد، بعد أن اشتغل حارسا للسيارات وبائعا متجولا في الساحات والأزقة. وبعد إنجازات موفقة في سباقات محلية سيحصل على الجنسية الإسبانية بعدما أثبت أنه يحمل في دمائه جينات البطل. البطل آيت خموش لم يولد مبتور الذراع. الذي بتر ذراعه هو السياسة الحكومية الفاشلة التي حرمت القرية التي ولد فيها من حقها في وجود مستوصف لتقديم الإسعافات الأولية. فبعد سقوطه في بئر عندما كان طفلا، لم تتمكن والدته الفقيرة من حمله خارج القرية لمعالجة ذراعه. فبقيت على تلك الحالة حتى تعفنت وكان ضروريا بترها حتى لا يموت الطفل. قصة آيت خموش لا تختلف كثيرا عن قصة عزيز قيسوني، العداء المغربي المتخصص في الماراتون والذي صدم الجميع، الذين لديهم قلب على الأقل، عندما عرض كليته للبيع في إحدى الجرائد من أجل جمع المال الكافي لإنقاذ حياة ابنته المعاقة. نداء الاستغاثة الذي أطلقه عزيز قيسوني لم يسمعه أحد لا في وزارة الشبيبة والرياضة ولا في وزارة التضامن والأسرة. بل سمعه وسيط رياضي من الولاياتالمتحدةالأمريكية وعرض على عزيز حمل الجنسية الأمريكية والاستفادة من التغطية الصحية لفائدة ابنته المعاقة، مقابل الانضمام إلى أحد النوادي الرياضية الأمريكية وحمل قميصها. إنه الخطأ نفسه يتكرر في كل مرة. بسبب الإهمال الطبي نفقد بطلا جديدا. وإذا كان آيت خموش ذهب إلى إسبانيا وحمل جنسيتها وحقق لها ميدالية فضية في بكين بسبب ذراعه التي بترت لغياب العناية الطبية، فقبله ذهب رشيد رمزي إلى البحرين وحقق لها ميدالية ذهبية في بكين بسبب عملية على ساقه حرمته منها الجامعة المغربية لألعاب القوى لا تتعدى تكلفتها عشرين ألف درهم. وغدا سيذهب إلى أمريكا العداء عزيز قيسوني ليركض تحت رايتها مقابل ضمان العلاج لابنته المعاقة. هل تتصورون أن كل هؤلاء سيفكرون ذات يوم في العودة إلى المغرب لحمل رايته وقميصه. لقد تخلى عنهم الوطن في لحظات ضعفهم القصوى عندما كانوا يحتاجون منه حقنة أو مجرد قرص أسبرين. فعزيز قيسوني لن ينسى أنه عرض كليته للبيع مقابل علاج ابنته التي تسبب خطأ طبي في إعاقتها، ورشيد رمزي لن ينسى أنهم «كبرو» فيه مبلغا تافها لعلاج ركبته، وآيت خموش لن ينسى ذراعه التي بتروها له في المستشفى بسبب الإهمال ورموها في سلة المهملات. لذلك لا تلوموا الذين ذهبوا والذين سيذهبون، عليكم أن تلوموا الذين يدفعونهم إلى الذهاب بدون رجعة. هؤلاء هم الإعاقة الحقيقية للمغرب.