هل نحن بصدد ضوء أخير في نهاية النفق على الجبهة الفلسطينية، أم إنها متاهة جديدة تشبه وربما تكرر متاهة العشرين سنة الأخيرة؟ قبل عشرين سنة وعقب حرب الخليج الثانية وانتفاضة الفلسطينيين الأولى، كان مؤتمر مدريد، وقيل وقتها إنه يعقد طبقا للقرارات الدولية، وكلها صدرت عن الأممالمتحدة، وبعد زحام الكاميرات والتصريحات وعدد لا بأس به من المشادات، كانت قوة الدفع تنسحب تدريجيا وينزل الستار وتحل جولة مفاوضات سرية في أوسلو بدلا من مدريد، وبطريقة ثنائية لا جماعية، وبين محمود عباس، الرئيس الفلسطيني الآن، وشيمون بيريز، الرئيس الإسرائيلي الآن، وكان اتفاق أوسلو الذي فوجئ به المفاوضون الفلسطينيون الرسميون، ودخلت القضية الفلسطينية في المتاهة، أقيمت سلطة حكم ذاتي وقيل إنها مجرد مرحلة انتقال، تعلن بعدها الدولة الفلسطينية على أراضي الضفة وغزة والقدس المحتلة بعد 1967، وفي مدى أقصاه عام 1999، ولم يأت الموعد المضروب أبدا رغم مئات من جولات المفاوضات والاتفاقات والتعديلات، وكل ما تغير كان الوقائع الملموسة على الأرض وفي التوزيع السكاني، واقتطاع الأرض بالجدار العازل، وتوحش الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية، والتهويد الكامل للقدس إلا قليلا. واليوم، تتكرر القصة ذاتها، ويتقدم محمود عباس نفسه بطلب إلى الأممالمتحدة، يطلب فيه عضوية كاملة لفلسطين في الأممالمتحدة، وعلى أساس القرارات الدولية ذاتها التي جرى سردها في ديباجة الدعوة إلى عقد مؤتمر مدريد قبل عشرين سنة، وبإدراك مسبق هذه المرة لحدود ما يمكن أن يجري، فمعارضة واشنطن موجودة في مجلس الأمن وتحبط طلب العضوية الكاملة، ولا يتبقى سوى اللجوء إلى الجمعية العامة وتوفير أغلبية الثلثين والحصول على درجة «عضو بصفة مراقب»، وهو ما يعني تحسنا طفيفا في صلاحيات الوفد الفلسطيني للأمم المتحدة، لا يعطيه حق التصويت المرتبط بالعضوية الكاملة، بل يعطيه فقط حق المشاركة الأفضل في عدد من مؤسسات الأممالمتحدة. وقد لا يكون العيب في التحرك ذاته، فالكفاح الدبلوماسي مطلوب في كل وقت وحشد وتنشيط تأييد دولي للحق الفلسطيني عمل في محله، لكنه لا يعيد أرضا بالضرورة ولا يقيم دولة، وقد يستثير أعصاب الإسرائيليين لكنه لا يضمن حقوق الفلسطينيين، خاصة وأن قضية فلسطين صدرت بشأنها مئات من قرارات الأممالمتحدة، ومن أول قرار التقسيم وحق العودة في أواخر الأربعينيات من القرن العشرين وإلى يوم الناس هذا الذي تداس فيه أبسط حقوق الفلسطينيين، ويقال لهم، وكما قيل عبر عشرين سنة خلت، إن لكم الحق في دولة، ولكن بالطريقة التي توافق عليها إسرائيل وبالحدود التي ترضى عنها. ورغم الحماس الفلسطيني والعربي للتحرك صوب الأممالمتحدة، فإن الضمائر المخلصة لا تخفي ارتيابها في ما يجري، فالرئيس عباس هو رجل أوسلو، وهو الفلسطيني المفضل لدى الأمريكيين والإسرائيليين، وقد عارضوا توجهه إلى الأممالمتحدة، فيما بدا عباس مصرا، ولكن دون رغبة في المجازفة بالصدام إلى مداه، وهو لا يخفي نيته، فقد تعب الرجل من ملل الفراغ الذي انتهى إليه، ويريد للإسرائيليين أن يعيدوا الانتباه إلى وجوده وأن يعودوا إلى مفاوضته، ولو على سبيل إيجاد عمل لفريقه التفاوضي المعطل وظيفيا، ويتقاضى رواتبه بانتظام، ومن المعونة الأمريكية الممنوحة لسلطته والمقدرة سنويا بما يقارب 500 مليون دولار، وعباس يعرف ذلك، ويتصرف على أساسه، وبرغبة أكيدة في عدم مخالفة الرغبات الأمريكية فوق حدود معينة، وبإعلان جهير عن رغبته في العودة إلى تفاوض ثنائي مع الإسرائيليين، وهو ما يريده رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ودون شروط مسبقة من نوع وقف أو تجميد الاستيطان، وبغير التزام مسبق بخرائط حدود ولا بجداول زمن، والمحصلة: لا شيء، سوى أن يرد اسم عباس في نشرات الأخبار، ومعه الوجوه المملة لصائب عريقات ونبيل شعث وحنان عشراوي، وتصريحات الأخ ياسر عبد ربه فوق البيعة (!) ونخشى أن القصة كلها مجرد مناورة، واقتطاع من الوقت الضائع أصلا، وعودة إلى تجريب المجرب والمخرب، وتضليل للشعب الفلسطيني عن الطريق الصحيح لاستعادة أرضه وحقوقه التاريخية، وهي أكبر وأوسع كثيرا من مجرد الحصول على دويلة في الضفة وغزة، وليس الشعب الفلسطيني بدعا بين الأمم حتى يقال إنه لا طريق آخر أمامه، فالتفاوض أي تفاوض يعكس توازن القوى، ولم تكن قوة أي شعب مظلوم مساوية ولا مقاربة أبدا لقوة المحتلين، لكن المقاومة هي التي تصنع التوازن وتصل بالاحتلال، أي احتلال، إلى النقطة الحرجة التي تزيد فيها تكاليف وأعباء الاحتلال عن فوائد وجدوى استمراره، وتجارب المقاومة كلها تثبت هذه القاعدة الذهبية، بما فيها تجارب المقاومة العربية ضد الاحتلال الإسرائيلي، فقد جلت إسرائيل عن الجنوب اللبناني تحت ضغط المقاومة المسلحة، ودون قيد ولا شرط، بل حتى بدون اللجوء إلى أي تفاوض، وسرى الأمر ذاته في غزة، والتي جلت عنها إسرائيل من طرف واحد، وقامت بتفكيك مستوطناتها وإجلاء المستوطنين اليهود، وتحت ضغط مقاومة مسلحة وشعبية تضمنتها ملاحم الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وعلى العكس تماما مما جرى في الضفة الغربية والقدس، حيث سرت تعهدات سلطة أوسلو بقيادة عباس بالذات، وتحول دور السلطة إلى دور الوكيل الأمني، ودخلت في شراكة بإشراف أمريكي مع الجيش الإسرائيلي والأجهزة الأمنية، بهدف واضح جدا هو اجتثاث وتفكيك خلايا المقاومة الفلسطينية والحيلولة دون أي تمرد جماهيري واسع على سلطة الاحتلال أو ضد جرائم الاستيطان والتهويد وهدم وتجريف ممتلكات الفلسطينيين، بل خلطت السلطة إياها زيت الفلسطينيين بطحين الاحتلال وتحملت عن الاحتلال كافة الأعباء والتكاليف؛ ومقابل منح أمريكية وأوربية تمول جهازا بيروقراطيا فاسدا، تزيد روابط ولائه للاحتلال الإسرائيلي، ويحول المكافحين إلى موظفين، ويحول حركة فتح إلى شركة تسهيلات وتشهيلات، ويعمق الصدام مع حركة حماس، ويجمد اتفاق المصالحة معها عملا بأوامر أمريكية إسرائيلية صريحة، عبر عنها نتنياهو بصورة غاية في الوقاحة، وقال علنا لعباس إن عليه أن يختار إما السلام مع حماس أو السلام مع إسرائيل، وقد فعلها عباس، وفضل الاختيار البائس، وبمباركة من نظم عربية أشد بؤسا تخلت عن نجدة الفلسطينيين وتشتري رضاء الأمريكيين.