يحلم كثير من الساسة الفلسطينيين والعرب بما يسمونه الحل العادل والشامل للقضية الفلسطينية وانتهاء الصراع العربي الإسرائيلي، فإن سألتهم ما هي رؤيتهم لهذا الحل، حكوا لك الحكايا عن دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، عاصمتها القدسالشرقية. وإذا سمح لي القارئ الكريم اليوم فأنا أقول إن الدولة الحلم، التي يريدها قادتنا نحن، هي ضارة ضررا بالغا بمصالح الفلسطينيين والعرب، وهي لن تعدو أن تكون كابوسا آخر من كوابيسنا الاستعمارية العديدة، وستكون أداة احتلالٍ وقمع للفلسطينيين لا أداة استقلال وحرية ونمو. وأزيد أن هذه الدولة الفلسطينية التي يريدها قادتنا في الضفة الغربية وقطاع غزةوالقدسالشرقية ستكون نائبة عن الاحتلال، قائمة مقامه، مؤدية وظائفه، حالة محله كأنها هو، لا فرق بينهما إلا في الاسم والزي والشعار. وأزيد أكثر أنها ستكون كذلك حتى لو حكمها ملائكة من السماء، لأن سوءها وضررها ناتجان عن بنيتها وهياكلها، لا عن اختيارات قادتها. إن قادتها سيكونون مضطرين دائما، لا خيار لهم، إلا ما يمليه عليهم ضعف دولتهم من ظلم بني جلدتهم وخدمة مستعمريهم، فلا فرق إن كانوا من أولاد الناس المهذبين الطيبين أو من الأفجاج المجرمين، فلا معنى لصفات المضطر، ولا يد له في الخير والشر. أتمنى أن أكون مخطئا، لكن لنتخيل معا أن الدولة الحلم تلك قامت غدا، فكيف ستكون؟ أولا، ستكون هذه الدولة إقرارا نهائيا من الفلسطينيين بأن عكا وحيفا مدن إسرائيلية، حق اليهودي البولندي فيها كحق المواطن المصري في القاهرة، وأن سادة من أمثال الدكتورعزمي بشارة والشيخ رائد صلاح ومليون ونصف المليون من الفلسطينيين الواقعين تحت احتلال إسرائيل منذ عام ثمانية وأربعين ليسوا فلسطينيين، بل هم إسرائيليون من الدرجة الثانية، ومن لم يرد منهم أن يكون إسرائيليا فعليه أن يهجر مدينته ويتجه إلى الضفة الغربية أو قطاع غزة لينعم باستقلاله الوطني مقابل تنازله عن وطنه الأصلى، أعني أن الدولة الفلسطينية في الضفة وغزة تضع أهل عكا وحيفا أمام خيار غريب، الاستقلال في جهة والوطن في جهة، وبينهما سور. ثانيا، من الناحية الأمنية، ستصبح مصلحة الدولة الفلسطينية متوحدة مع مصلحة إسرائيل، لأن القادة الفلسطينيين سيعلمون بأن أي هجوم على إسرائيل من الجبهة الشرقية، مثلا، سيهدد وجود دولتهم، لأن إسرائيل ستفضل أن تدور المعارك على أراضيهم هم بدلا من أراضي السهل الساحلي الضيق، أي أن سلامة إسرائيل من أي هجوم عليها سيكون مصلحة يعمل على تحقيقها القادة الفلسطينيون. وأكثر من ذلك، سيعمل هؤلاء القادة على حماية إسرائيل من أية عمليات فدائية تنطلق من أراضيهم، خوفا من أن تكون ذريعة لاجتياح إسرائيلي يعيد احتلال الدولة الوليدة، أي أن خوفنا من احتلالهم لنا سيؤدي بنا إلى احتلال أنفسنا لحسابهم. سيكون استقلالنا من الناحية الأمنية على الأقل امتدادا للاحتلال الإسرائيلي، نحميهم من أهلنا في المخيمات، ونحميهم من أهلنا العرب. والأدهى أن هذا الحلف الأمني مع العدو سيمكن تبريره بصفته حفاظا على المصلحة العليا للدولة الفلسطينية الوليدة، وسيكون كذلك فعلا. لو أعدنا تعريف الذات، فسيعاد تعريف مصلحة الذات، ولو أصبح الوطن هو الضفة وغزة فقط، لأصبح التعاونُ مع إسرائيل وطنية ومقاومتُها تهديدا لأمن ذلك الوطن. ثالثا، من الناحية الاقتصادية، ستكون هذه الدولة معتمدة اعتمادا كاملا على الاقتصاد الإسرائيلي، حيث ستنشأ شركات مسجلة في الدولة الفلسطينية يملك أسهمها إسرائيليون تسوق منتجاتها في العالم العربي الواسع، وحيث رجال الأعمال الفلسطينيون يشترون السلع الإسرائيلية لبيعها في الأراضي الفلسطينية وبلاد العرب، وحيث يشتغل بعض العمال الفلسطينيين في إسرائيل لإعالة أسرهم. وقد رأينا نموذجا من ذلك في أيام أوسلو الأولى، حيث كان ثلث اليد العاملة الفلسطينية في الضفة الغربيةوغزة يعمل في إسرائيل، وكان الثلث الآخر معتمدا في معيشته على بيروقراطية السلطة الوطنية الفلسطينية التي تعتمد بدورها على إسرائيل، إذا خالفتها انقطع عنها مالها وعجزت عن دفع رواتب الناس، فكان ستة وستون في المائة من المجتمع الفلسطيني في الضفة وغزة معتمدا، بشكل مباشر أو غير مباشر، على قوة الاحتلال. ولا شيء يدل على أن ذلك سيتغير إذا قامت الدولة غدا. ستكون دولة تابعة اقتصاديا، ومنكشفة عسكريا، ومتعاونة أمنيا. رابعا: من الناحية السياسية وحقوق الإنسان والحريات الأساسية، ستكون هذه الدولة دولة غير ديمقراطية بالضرورة. إن ثلث سكان الضفة تقريبا وثلثي سكان غزة هم من اللاجئين الذين أخرجوا من ديارهم عام ثمانية وأربعين، ولا مصلحة لهم في هذه الدولة التي ستحرس إسرائيل منهم وتبقيهم معتمدين عليها في خبز يومهم. لذلك، إذا تركت لهم الحرية، فإنهم سينتخبون قوى سياسية تعدهم بتغيير قواعد اللعبة وبالاستقلال الاقتصادي والسياسي والأمني والعسكري عن إسرائيل. لكننا نعلم بأن هذا يعني تفكيك الدولة الفلسطينية الوليدة، حيث يضعها في مواجهة لا قبل لها بها أمام إسرائيل؛ وعليه، فإن أية عملية ديمقراطية في فلسطينالجديدة ستكون مشروطة بألا تؤثر على السلام مع العدو، وألا تسعى إلى الاستقلال الحقيقي عنه. وقد رأينا نموذجا من ذلك حين عوقب الشعب الفلسطيني كله بالتجويع والحصار لأنه صوت لحزب أو حركة لم تكن إسرائيل راضية عنها. ولا يقف ضرر غياب الديمقراطية عند هذا الحد، ففي غياب مجلس نيابي منتخب انتخابا نزيها لن تكون هناك رقابة حقيقية على الميزانية، وهذا يؤدي طبعا إلى استشراء الفساد، والفساد يعني أن أي مال يصل إلى هذه الدولة مقابل سلامها مع إسرائيل وتعاونها الأمني معها، لن يصل إلى فقرائها، بل سيبقى في أيدي قادة الدولة والمتنفذين فيها، فيخرج الفقراء الفلسطينيون، واللاجئون منهم، في الداخل والخارج، مقموعين محرومين، خاسرين حقهم في العودة، وخاسرين حتى الثمن الذي بيع به هذا الحق. ربما كانت الحسنة الوحيدة لهذه الدولة أنها ستمنح بعض الفلسطينيين جوازات سفر صالحة، ومن المفارقة أن حسنتها الوحيدة هي أن تتيح لهم فرصة مغادرتها. أما من يسأل: ما البديل؟ فنحيله على ما كررناه مرارا في هذه الزاوية عن الحلف المتكون في المشرق من تركيا وإيران والعراق وسوريا ولبنان وربما مصر، والذي يمكن أن يدعم مقاومة فلسطينية تدخل النظام الصهيوني في حرب استنزاف لا يستطيع أن يحقق فيها نصرا، فنفكك النظام الذي يظلم الفلسطينيين بدلا من أن نبني نظاما آخر بجانبه يظلمهم أيضا.