ندرك جميعا كم هو مزعج أن ننسى المكان الذي وضعنا فيه مفتاحا أو هاتفا، وكم هو مقلق ألا نقدر على تذكر اسم شخص أو مكان ما؛ فبسبب ضغوطات الحياة، نصاب أحيانا بهذا النسيان؛ لكننا ننجح، بفضل تمرين ذهني بسيط، في استدراك هذا السهو المؤقت الذي لا يمكنه، بأي حال، أن ينسي المرء أحاسيسه، آلامه وأفراحه، تجاربه وأخطاءه، تفاصيل الوجوه والأمكنة التي أخذت مكانها داخل ذاكرته إلى الأبد. لكن ماذا لو تحول هذا النسيان إلى مرض حقيقي؟ آثاره أكبر وأفظع من إفلات معلومات بسيطة، حين نعاند الذهن، نراوغه ونعصره، لكنه لا يسعفنا لكي نستحضر، مثلا، تفاصيل وجوه عمرت أمامنا طويلا.. إنه «الزهايمر»، المرض الذي يشبه ربوة تنبت فجأة في حقل الذاكرة لتحجب ذكريات ومهارات الفرد، وتمتد لتدمر حتى مفردات لغته. لقد خُصص يوم الواحد والعشرين من سبتمبر من كل سنة لكي يلفت انتباه الناس إلى أسباب ومضاعفات هذا المرض الذي يقدر عدد المصابين به في أرجاء المعمورة بالملايين، ويتزايد عددهم باضطراد؛ أما في المغرب، فهناك الآلاف من المرضى، من الآباء والأمهات والأقارب، الذين تتحمل عائلاتهم ظروفهم الصحية الصعبة، والذين يَخبرون الشيء الكثير عن قسوة هذا الداء ذي التكلفة العالية، ماديا ومعنويا، سواء بالنسبة إلى المصاب أو الذين يحيطون به، هؤلاء الذين يجدون أنفسهم أمام شخص أصيب بفقدان مريع لذكرياته معهم، وأضحى غريبا بعدما أفرغه المرض من كل شيء، وحوّله إلى طفل صغير قد يتيه لو ترك وحده، لذلك يجدون أنفسهم ملزمين بمراقبته مراقبة لصيقة وإحاطته برعاية خاصة، وتحمل عيش يوميات مضنية مصدرها التعاطي مع مرض أشبه بقطعة قطن كثيفة جففت وامتصت بخبث كل مهارات المريض وتجاربه. هذا المرض، في نظر من يعانونه ويتحملون توابعه، لا يحتمل السخرية منه، مثلما نفعل عادة حين يحلو لنا أن نستعمل مفردة «الزهايمر» كناية عن النسيان أو حين تتحول أعراضه إلى فرصة للفرجة والضحك الجماعي كما جاء في الفيلم المصري «الزهايمر»، بل إنه يحتاج، على العكس من ذلك، إلى تكثيف الجهود من أجل توعية أكبر به، مثل الجهد والخدمة التي قدمتها الفرنسية «فابيان بييل» إلى المرضى، حين قامت بتأليف كتاب «أخاف أن أنسى» الذي سردت فيه قصة حقيقية عن إصابتها في الأربعينات من عمرها بهذا الداء، وتصف فيه أحاسيس الخوف من النسيان. وقد تحول الكتاب إلى فيلم سينمائي يحمل نفس العنوان، عرضته قناة تلفزية فرنسية في اليوم العالمي للمرض. ولأن الذاكرة صانعة ماهرة للحياة والمستقبل وبمثابة هوية ليس في وسع أي كان الاستمرار في العيش بشكل طبيعي بدونها، مما يجعل ضياعها شيئا مؤلما ومخيفا، ماذا لو قام كل واحد منا بتدوين ذكرياته وتجاربه في كتاب للذكريات، يوثق فيه بلا سهو أدق التفاصيل في حياته، يسمي فيه كل الأشياء وجميع الأشخاص الذين يلتقي بهم بأسمائهم، ويضع قواميس شخصية للغته ولانفعالاته، ولا ينسى إيراد تجاربه الجيدة والسيئة، كإجراء احترازي تحسبا لأي تلف مستقبلي قد يصيب الذاكرة؛ فمثلما توثيق تاريخ الأمم ينطوي على أهمية بالغة، كذلك تدوين ذكرياتنا الفردية، فهو لا يقل أهمية عن ذلك. سيكون اليوم العالمي لمرض «الزهايمر» فرصة سنوية لكي نمتدح عمل الذاكرة الرائع، ونلتفت إلى أنها مَلَكة مذهلة لا تتوقف عن دعمنا في الحياة، ولندرك مدى قصور مفردة «ذاكرة» لوصف هذا الهبة الإلهية التي تتسع لكل هذه العمليات الذهنية المعقدة من تجميع المعلومات والمهارات والتجارب الوجدانية والوجوه والأماكن... ومرافقة الإنسان في كل مراحل عمره وتزويده حسب الحاجة بمساحات فسيحة ليكمل رحلة الحياة بأمان.