أعرف أن معظم الجماهير لا تضمر حبا للرئيس، ومن يتظاهرون بحبه ليسوا سوى فئات ربطت مصيرها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي بالنظام، وبدلا من تعبير الطاعة أو المبايعة على الطريقة الملكية فقد أبدعوا كذبة جمهورية اسمها «محبة الرئيس»، هؤلاء يطلقون عليهم وبحق لقب «المنحبكجية»، ولكن هناك قلة قليلة أحبت الرئيس بالفعل وتوسّمت فيه خيرا وظنت أنه مختلف عن سابقيه ومعاصريه من رؤساء، وأنا واحد من هؤلاء، ولهذا أمِلتُ بأن يسعى سيادته إلى إنقاذ الوطن فيثلج صدر الأمة ويفرك بصلة في عين أعدائها المتأهبين للانقضاض على الوليمة، وذلك بأن يتخذ قرارا تاريخيا ويعلن للعالم بوضوح أن هناك رئيسا عربيا قادرا على الاستقالة طوعا وليس بالشلاليط، وأن ما يقف وراء استقالته هو مصلحة البلد وليس مدافع رشاشة مختفية وراء ستائر قاعة الاستقبال في القصر الجمهوري تفرضها عليه. صار كرسي الرئاسة تحته إبرا وأشواكا، وجفاه النوم رغم حبوب التنويم والتهدئة التي صار يرمّها رما، عندما رأى المظاهرات الجبارة والضحايا على اليوتيوب لم يصدق ما يحدث بهذه السرعة وبهذا الحجم، في البداية قال لنفسه: لن أذهب بعيدا، سوف أستقيل إذا وصل عدد الضحايا إلى مائة، ثم رفع السقف إلى مائتي ضحية، ولكن الأخبار تتحدث عن المئات وحتى عن الآلاف، ورغم ذلك ما زال مترددا، فهناك دائما من يحاول إقناعه بأن ما يحدث هو عاصفة مؤقتة، لكن أكثر ما هز ثقته بنفسه هو مقطع سمعه على اليوتيوب بمشاركة الآلاف ينشدون وراء صوت جهوري قوي واضح ورخيم «يا رئيس طز فيك.. وطز بيلّي بيحييك». كانت هذه صدمة أهون منها قصف القصر الجمهوري بالمدفعية أو تحليق طيران العدو فوقه، أو حتى تدمير موقع عسكري استراتيجي من قبل العدو، كل هذا ممكن التعامل معه بسهولة وحتى بخفة دم مثل «نحن نحتفظ بحق الرد في الوقت والزمان المناسبين»، قد يسخر بعض الصحافيين من عبارة كهذه تطلق بعد كل صفعة، ولكنه منفذ إبداعي لا بأس به، فهو يوحي للمستمع الكريم بأن هناك نية للانتقام من العدو، وفي ذات الوقت يوحي للعدو بأن القضية منتهية ولا حاجة إلى التصعيد، ولكن كيف يمكن التعامل مع أمر لا هو تحليق طيران ولا قصف مواقع ولا اغتيال شخصية ولا حتى اختطاف طائرة على متنها الصف الأول من قيادة الدولة.. هذه ال»طز» الموجهة إلى الرئيس تهدد النظام برمته، ولا ينفع معها بيان «أحتفظ بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين»! يقف الناس في الساحات العامة ويطلقونها وهم أشبه بحالة دروشة رغم صليهم بالرصاص، وهذا يعني أن آلامهم منبثقة من أعماق أعماق أرواحهم بحيث لم يعد ينفع معها دواء، لا شك أن المحيطين بالرئيس منعوا وصول هذه الهتافات المغناة إلى سيادته، ولكنه مختلف عن زملائه، فهو معاصر لوسائل الاتصال، وعندما ينفرد بنفسه يبحر في الشبكة العنكبوتية على حاسوبه الخاص المثبت في غرفة نومه، يسجل دخوله بكلمة سر مؤلفة من واحد وعشرين حرفا ورقما وعلامة ترقيم، ثم يشغل محركات البحث بالذات عما يبثه الثائرون من أشرطة حجبت عنه، ليعرف ما هو الموقف الحقيقي، وليس ما تنقله له بطانته التي يعرف فسادها ونفاقها، وأدرك أنه لا يمكن لكل هذه الأشرطة أن تكون مفبركة، في البداية طمأنه رجاله بأن القضية ستحسم خلال أيام، وقالوا له «نحن لا نشبه أحدا، الشارع العربي يتعاطف مع المقاومة ويعرف أننا دعمناها»، ولكن الغضب مستمر ويتفاقم، هناك شعور عميق بالمرارة لدى الناس، إنه قهر متراكم منذ عقود، فكرامة المقاومة تتكامل مع كرامة المواطن ولا تتناقض معها، وها قد مضت أشهر وما زالت المسيرات تنطلق بزخم مطالبة بإسقاط النظام، وبلغ الحقد بهتافات تطالب بإعدامه، أكثر من مرة ضرب على الطاولة بقبضته وقال: «يجب أن يكف هذا الإعلام السخيف عن وصف كل هؤلاء بالزعران والحشاشين، لأنه لا يمكن لأي بلد أن يكون فيه هذا الكم الهائل من الحشاشين وبمثل هذا الوعي السياسي»، وشعر بأنه أخطأ خطأ جسيما قد يكون مصيريا عندما وصف المحتجين في أول ظهور له بعد بدء الثورة بالجراثيم، رغم أن الجرثومة أمر لا يرى ويكاد يكون معنويا مجردا، أما الجرذان فهي واقع يراه ويلمسه ويقرف منه الناس. في هذه اللحظة المفصلية الصعبة من حياته، تذكر سيادته حِكم الفلاسفة ونهاية الإنسان الحتمية، فكر في عظماء التاريخ وأغنياء الأرض وقادة الشعوب ومصائرهم، واستنتج ما هو معروف منذ آلاف السنين، كل شيء قبض ريح وباطل الأباطيل، لا قيمة للحكم عندما يكون قائما على دماء الناس ويتغذى منها، ولا قيمة لحكم جعل امرأة تندب فوق جثمان طفلها الذي قتل تحت التعذيب، لا قيمة لحكم يعتمد على القوة المطلقة، إلى الجحيم أيها الكرسي النتن.. أدرك سيادته أن بطانته لم توصل إليه الحقيقة ولن تفعل، بدؤوا بكذبة عن ثورة مفبركة وصلت في بطون الشاحنات والبواخر، وبعد الكذبة الأساس اضطروا إلى فبركة كل شيء ليصدقوا الكذبة، المظاهرات مفبركة، الرصاص مفبرك، القتلى، الجنازات، قوى الأمن، الدبابات، المآذن، الثكالى، المنشقون، الاستقالات، الانشقاقات في الجيش، الهتافات، البيانات، كل شيء مفبرك، وما هذه الثورة سوى نتاج خيال إبداعي، فجأة صار كل مواطن أكثر قدرة على الإخراج من هوليوود أو من مدينة السينما في مصر. خلال بحثه في الشبكة، قرأ نصائح كثيرة من مثقفين وسياسيين تطالبه بالاستقالة إنقاذا للوطن أو أن يبدأ بإصلاحات فورية جذرية، ولكن ماذا تعني فورية وجذرية! لا يمكن لإصلاح أن يكون جذريا مع استمرار سيادته في الحكم، فالخطيئة الأولى كانت حكم الحزب الواحد، ثم الرئاسة بلا منافسة حتى الموت، ثم توريثه الحكم بعد تفصيل الدستور على مقاسه، شلة بعدد أصابع اليد من مقربيه هي التي تحكم قبضتها على البلاد وتغتصب خيراتها، هكذا كان وما زال كل شيء بيد الحلقة الأضيق للرئيس، ولهذا استنتج أن الإصلاح مستحيل لأن أحدا من الحلقة الأقوى لن يوافق على ترك عسل السلطة بخاطره... هذه القيادات الواهمة بأبدية الحكم والتي تصف نصف مليون متظاهر بالحشاشين لن تتنازل عن نفوذها، لن يكون قرار سيادته سهلا، لأنه يعرف أن ما ينتظره قد يكون سجنه وعزله في زنزانة لن يرى منها الشمس أبدا، أو الإقامة الجبرية في مكان ناء، وقد يكون القتل على يد أقرب المقربين منه بطريقة إبداعية تجعله يبدو منتحرا كما حدث لآخرين، الأمور باتت واضحة، النظام سقط والرئيس يلعب في الوقت الضائع، وما كان لن يكون بعد الذي يحدث أبدا، سواء اليوم أو بعد أشهر وحتى بعد عام أو عامين، سيادته لن يبقى رئيسا في كل الحالات، ولكن الفرق هو أن يحاكم كمجرم حرب أو أن ينهي رئاسته كمواطن عزّت عليه دماء أهله وأبناء شعبه، لا يمكن إنقاذ البلاد بدون هذه الخطوة الشجاعة، ولهذا سيتوجه إلى زوجته ويخبرها بقراره «بعد أيام ستكونين حرم أول رئيس جمهورية عربي سابق..»! وستقول له بدبلوماسيتها المعهودة» «هذا ما تمنيت أن تفعله يا عزيزي منذ البداية، ولكنني لم أجرؤ على البوح به... ويبدو لي أنه قد صار متأخرا..».