نظم مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوث العقدية بتطوان لقاء تكريميا للمفكر المغربي الدكتور عبد المجيد الصغير، أحد كبار الباحثين المغاربة في الفكر العربي الإسلامي، احتفاء بأعماله التي أغنى بها المكتبة المغربية والعربية. والدكتور الصغير أستاذ لمادة الفلسفة وتاريخ الفكر الإسلامي في جامعة محمد الخامس بالرباط، وضع العديد من الكتب من بينها «إشكالية إصلاح الفكر الإسلامي بالمغرب»، «الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام: قراءة في نشأة علم الأصول ومقاصد الشريعة»، «التصوف كوعي وممارسة»، «إشكالية إصلاح الفكر الصوفي في القرنين 19-18م / أحمد بن عجيبة ومحمد الحراق»، «تجليات الفكر المغربي»، «في البدء كانت السياسة»، «بدايات الفكر الإسلامي ترجمة كتاب يوسف فان إس»، و«خصوصية التجربة الصوفية وعلاقتها بالتيار السلفي في المغرب» الذي صدر مؤخرا عن دار رؤية للنشر والتوزيع بالقاهرة. وقد ألقى الدكتور الصغير على هامش تكريمه محاضرة علمية حول قضية تدبير الاختلاق في الاجتهاد العقدي عند أبي الحسن الأشعري، ذكر فيها أن علمي الأصول والكلام نموذجان متميزان في رصد مظاهر وأسباب الاختلاف بين المسلمين، وفي باب اقتراح وسائل تدبيره وحل إشكالاته، لكون العلمين متداخلين يصعب الفصل بين خطابيهما، وأكبر دليل على ذلك حسب المحاضر كون أبي حنيفة اعتبر علم الكلام «فقها أكبر» مقارنة مع فقه الفروع، وذلك إشارة منه إلى ذلك التواصل والتداخل بين العقدي والعملي في الإسلام. ثم بين المحاضر أن علم الكلام يعتبر من العلوم بعيدة الأثر في حياة المسلمين، لأنه عكس تحولات هذا المجتمع وحيويته في فترة انبثاقه واستوائه كمجتمع بديل في تلك المرحلة من مراحل التحول الحضاري في تاريخ الإنسانية، فتمثل علماء الكلام بدءا من المعتزلة التوجيه القرآني في الدعوة إلى مناقشة ومجادلة المخالفين، واضطلعوا بذلك الدور الكبير الذي أبلوه مبكراً في الدفاع عن الإسلام، بالفكر والقلم، ضد مختلف التيارات والمذاهب الفكرية والدينية والسياسية التي كان يعج بها العالم الإسلامي، وهو الدور الذي شهد لهم به الموالون والمعارضون على السواء... وفي نفس الوقت أعلنوا إقرارهم بحق الاختلاف والتعامل معه إيجابياً كظاهرة طبيعية وتجل من تجليات الإرادة الإلهية في خلقه. غير أننا نعلم في نفس الآن – يقول الدكتور الصغير- أن ذلك التلاحم والتعاون الذي تم في البداية بين رجل السلطة، ابتداء من المأمون، وبين رجل الفكر ممثلا في المعتزلة، سوف ينحرف عن هدفه الذي خطط له وسوف تلقى «فتنة السلطة» بظلالها على فئة من المعتزلة، فينقلبون من دعاة «وجوب النظر» والإقرار بحق الاختلاف وشرعية التأويل وضرورة المحاورة والمناظرة والإقناع العقلي، إلى دعاة إلى التقليد والرأي الواحد؛ فألقوا ما بأيديهم من أقلام وقراطيس ليعوضوها بسياط وعصي يفرضون بها على الناس اجتهاداً معيناً أنزلوه منزلة «العقيدة» وجعلوه أس الإسلام وجوهره. وتلك «فتنة» حقيقية –في نظر المحاضر- قلبت المشروع الأصلي للمعتزلة رأسا على عقب وحولته إلى نقيضه، وانعكس ذلك سلباً على الخواص والعوام، مما أرغم السلطة السياسية نفسها، التي تبنت ذات المشروع في بدايته، على مراجعة حساباتها والتفكير في إنقاذ الوضع، جانحة إلى التضحية بحلفائها العضويين والميل إلى خصومهم من الذين قَلَوْا الكلام المعتزل وقَلَوْا معه كل «كلام» بعد أن جعلت تجربة المعتزلة في ذاكرتهم معنى «الكلام» مقروناً بكل مظاهر الإكراه والعنف وامتحان الضمائر واستبداد الفكر. وتحت عنوان: «المشروع الوسطي عند الإمام الأشعري» انتقل الدكتور الصغير إلى إمام الأشاعرة أبي الحسن مقدرا أنه وضع أمام نظره كل الظروف والتحولات الفكرية السابقة أثناء تنظيره لمشروعه الوسطي الجديد، مما أعطى للمشروع الأشعري معناه ووضح منطقه الذي فرضه التاريخ، ولم تفرضه تلك الرؤى والحكايات التي لا قيمة موضوعية لها مما رواه ابن عساكر عن «تحول» هذا الإمام الأكبر عن مذهبه الكلامي القديم وانتهاجه نهجاً وسطاً يعيد الاعتبار للاجتهاد العقدي ويدرأ عنه إفراط المتأولين وتفريط النصيين. والملاحظ في هذا المشروع التصحيحي لاتجاه أبي الحسن الأشعري، أنه بالرغم من إظهاره عبارات التعاطف والمساندة لأحمد ابن حنبل في محنته إلا أن هذه المساندة المبدئية لم تكن لتجعله ينسلخ من تجربة كلامية طويلة فيشايع أتباع ابن حنبل دون شروط وضوابط، خاصة بعد أن قبل هؤلاء الأتباع أن يلعبوا نفس الدور الذي لعبه خصومهم المعتزلة، فاستعدوا السلطة ضد كل من لا يقول بمقالاتهم ويدين «ببياناتهم» العقدية، وإن ما له دلالة في المشروع الإصلاحي لأبي الحسن الأشعري حرصه في هذا المقام على الإبقاء على «مسافة» فكرية تفصله عن أولئك المنتصرين الجدد الذين تعاطف مع زعيمهم، ولكنه تعاطف لا يبرر سكوته عن قصور ما ارتضوه من منهج عقدي رأى فيه أبو الحسن قاصمة الدهر وعقماً فكرياً وتقصيراً لا يقل سلبية عن غلو المعتزلة، ولذلك بادر الإمام الأشعري إلى إعلان موقفه الجديد فسارع إلى كتابة رسالة في الدفاع عن شرعية «الفقه الأكبر»، وهي رسالة «استحسان الخوض في علم الكلام» الدالة بعنوانها على أن هناك من المبررات الشرعية والأسباب المنطقية ما يجعلنا نؤكد على قيمة البحث في علم الكلام، وعلى الفائدة الكبرى لهذا العلم، بحيث تجعلنا تلك الفائدة نميل على الأقل إلى «استحسان» الخوض فيه...خلافا للمتعصبين الذين وقفوا -كرد فعل على اضطهاد المعتزلة- موقفا غاليا بسد الباب أمام أي نقاش في علم الكلام. وألقى الدكتور جمال علال البختي، رئيس مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوث العقدية التابع للرابطة المحمدية للعلماء، كلمة في التعريف بالمحتفى به وبعطائه وجهوده في خدمة الفلسفة والفكر الإسلامي، كما ألقى الدكتور أحمد مونة، أستاذ المنطق والأصول بكلية أصول الدين بتطوان، قراءة في كتاب الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام للدكتور عبد المجيد الصغير.