توقف قلب أمريكا يوم الخميس الماضي بين 8:46 و9:03 صباحا عندما وقفت صامتة تتذكر هجمات الحادي عشر من سبتمبر التي وقعت في مثل ذلك الوقت من سنة ألفين وواحد. أمريكا بدت سيدة عجوزا ضعيفة ترتدي السواد حدادا على الضحايا الذين سقطوا ذلك اليوم. انتحبت كثيرا وحملت أكاليل الورد إلى قبور الموتى الذين أغمضوا عيونهم وأخذوا بعضا من أسرار ذلك اليوم معهم إلى الأبد. تكاد أمريكا لا تصدق حتى اليوم أنها طُعنت في قلب عاصمتها الاقتصادية ومركز عملياتها الحربية، وتبدو حائرة وهي تتساءل: لماذا يكرهونني؟ الآلاف من الأمريكيين وقفوا لساعات يوم الخميس في صفوف طويلة بمانهاتن في نيويورك وفي محيط البنتاغون بضواحي واشنطن ووسط حقل زراعي واسع في بنسلفانيا، وتناوبوا على إلقاء باقات الزهور البرية البيضاء والصفراء على مواقع سقوط الطائرات الأربع التي تقول الولاياتالمتحدة إنها استهدفتها في الحادي عشر من سبتمبر 2001. الكثير من الأمريكيين ذرفوا الدموع بصمت وهم يتمتمون بكلمات سرية أمام القبور، فيما حرص البعض منهم على اصطحاب أطفالهم وحمل العلم الأمريكي ورسائل ملونة حرصوا على وضعها بتبجيل خاص على شواهد قبور أحبائهم... غريب حزن الأمريكيين على قتلاهم، وغريبة طريقة معاملتهم لموتاهم، وغريب إصرارهم على النحيب بصوت خفيض عند قبور ضحاياهم وتساؤلهم ببراءة شديدة «لماذا يكرهوننا».. وغريب ألا يفهموا إلى حد الآن فظاعة ما اقترفته وتقترفه إدارتهم باسمهم خارج أراضيهم المحروسة بشدة. الكثير منهم يبدو مقيدا بأغلال النظام الرأسمالي المتوحش. يكد كعبد منذ ساعات الصباح الأولى لكي يركب في آخر اليوم سيارته الفارهة، ويعود إلى بيته الفخم ويقيم حفلة شواء في حديقته المشذبة بعناية، ويأخذ حماما للمرة الثالثة قبل أن يتمدد في فراشه «الكينغ سايز» الواسع، ويفكر كثيرا في الديون التي تطوق عنقه قبل أن يُغمض عينيه ويستسلم للنوم لخمس أو ست ساعات قبل أن يعاود نفس تفاصيل اليوم الماضي في اليوم الموالي دون ملل ولا كلل. الكثير منهم لا يفهم كيف يكرههم أناس بعيدون عنهم بآلاف الأميال، ويستغربون أن يتجرأ أحد على مهاجمتهم في أراضيهم، ويصدقون أبواق بعض وسائل الإعلام اليمينية التي تكاد تقسم بأن «الآخر» يكرههم بسبب «النعيم» الذي يعيشون فيه ويحسدهم على النظام الديمقراطي الذي يحكم حياتهم، وذلك لأن «تعاليمه تحض على الكراهية والعنف»! من يشاهد الحزن الأمريكي يوم الخميس الماضي يستنكر كيف تمنع أمريكا «الآخر» من الحزن على ضحاياه الذين سقطوا بصواريخها، ويستنكر كيف تُبجّل أمريكا موتاها وتحرص على هدهدتهم حتى وهم مستلقون في قبورهم، بينما لا تكلف نفسها حتى عناء الاعتذار عندما يسقط العشرات من الأبرياء في غارة «غير دقيقة» بكهوف أفغانستان المتربة أو بأحياء العراق الفقيرة، بل وتشيح بوجهها «اشمئزازا» من منظر الأمهات المكلومات اللائي يصرخن ويضربن على صدورهن ويُهلن التراب على رؤوسهن حزنا وكمدا على من قتلتهم أمريكا بدم بارد. غريب أمر أمريكا والأمريكيين معا.