الطريق إلى قبيلة آيت سيدي أحمد أوحمد بجبل عوام طويلة طول انتظار سكانها لمشاريع التنمية، التي لم تأت منذ أزيد من خمسين سنة عن الاستقلال، وصعبة صعوبة ظروف سكانها، الذين يناضلون للحصول بالكاد على ما يقتاتون به، رغم أنهم يعيشون فوق أرض من أغنى الأراضي المغربية بالثروات المعدنية. هذه الثروات لم تجلب لهم غير الشقاء بعد أن تحولت أراضيهم الفلاحية الخصبة إلى أراض موحشة بفعل المياه الملوثة بالمعادن التي يلفظها منجم جبل عوام. نساء القبيلة قررن بعد سنوات من الصمت التضامن مع أبنائهن، الذين نظموا اعتصاما يوم الجمعة الماضي، إلا أن الجميع ووجه بقمع غير مسبوق لم يفرق بين امرأة مسنة أو رجل تجاوز الثمانين من العمر. «المساء» زارت سكان قبيلة آيت سيدي أحمد أوحمد وتنقل لكم شهادات صادمة عن اعتداء قوات الأمن على شيوخ ونساء لم تترك لهم حتى الفرصة لمغادرة مكان الاعتصام. يحكي عبد الواحد بوعقة، أحد شباب قبيلة آيت سيدي أحمد أوحمد، أن أفراد قبيلته يعيشون مشاكل متعددة، وسبق لهم أن وجهوا شكايات إلى وزارة الطاقة والمعادن حول التلوث، الذي تعرفه أراضيهم الفلاحية بفعل وجود منجم عوام، كما وجهوا شكايات إلى العمالة وأخرى إلى السلطات المحلية، ممثلة في قائد جماعة الحمام مريرت، الذي أجروا معه أكثر من أربعة لقاءات حول الوضع بالمنطقة، ووجهوا أيضا رسائل إلى إدارة شركة «تويسيت» حذروا فيها من إمكانية وقوع أحداث بالمنطقة نتيجة التهميش واللامبالاة التي يتعامل بها المسؤولون مع المنطقة. ويعتبر بوعقة أن النقطة التي أفاضت الكأس هي نشر لائحة الترسيم السنوية بمنجم جبل عوام, التي لم تضم إلا خمسة أشخاص من المنطقة، وهو ما دفع سكان القبيلة إلى الدخول في اعتصام مفتوح للمطالبة بالتشغيل وتطبيق البروتوكول، الذي تم توقيعه مع الشركة الجديدة، التي التزمت بأن تكون نسبة العمال داخل المنجم من أبناء المنطقة 75 في المائة، إلا أن هذا الأمر لم يتم احترامه فدخل سكان المنطقة ليلة الأربعاء الخميس الماضيين في اعتصام بالطريق المؤدي إلى المنجم، فاسحين المجال لمرور الأشخاص والشاحنات والسيارات غير التابعة للمنجم من أجل دفع إدارة الشركة إلى فتح حوار معهم لإيجاد حل للمشاكل التي تعرفها المنطقة. ويؤكد بوعقة في سرده لأحداث ما وقع أن السلطات المحلية تدخلت في شخص رئيس الدائرة والقائد, اللذين استمعا إلى المعتصمين داخل مسجد القرية وسجلا مطالبهم، التي تمثلت في توفير الماء الصالح للشرب عوض الماء الذي تسبب المنجم في تلويثه، وتوفير عمل قار لأبناء المنطقة، وترسيم العمال الذين ينتمون إلى المنطقة، وتحسين البنية التحتية للمنطقة، مضيفا أن مسؤوليْ السلطة المحلية المذكورين اعتبرا مطالب القبيلة مشروعة فطلبا مهلة زمنية من أجل الانتقال إلى العمالة ومناقشة المطالب التي تقدم بها السكان مع المسؤوليْن والعودة بالحلول. وأشار بوعقة إلى أن السكان اتفقوا على الاستمرار في الاعتصام إلى حين عودة المسؤوليْن بالحلول التي تحدثا عنها. تدخل أمني عنيف ويواصل بوعقة سرده لأحداث ما أصبح يطلق عليه سكان جبل عوام ب«الجمعة الأسود»، أنهم فوجئوا صباح اليوم الموالي (الجمعة) بأربع سيارات أمنية تضم عناصر من وحدة التدخل السريع، إضافة إلى أفراد الدرك والقوات المساعدة يحلون بالمنطقة ويتقدمون حافلات نقل عمال المنجم. توقفوا بعيدا عن المعتصم، الذي كان يضم حوالي أربعين شخصا, بحوالي 200 متر، نظموا صفوفهم وتقدموا في اتجاه المعتصمين بخطوات عسكرية وبصوت قوي لإرعاب النساء اللائي كن في مقدمة المعتصم. وأضاف بوعقة أن المعتصمين اتفقوا قبل التدخل على أن لا يغادروا المكان، في انتظار أن تفتح معهم السلطات حوارا لإيجاد حل لمشاكلهم أو تعتقلهم كلهم، واتفقوا على ثلاثة مفاتيح أساسية للتعامل مع الوضع تتمثل في: «لا نسب ولا نضرب ولا نهرب». واعتبر المصدر ذاته في تصريحاته ل«المساء» أن قوات الأمن وقفت أمام المعتصمين وتقدم منهم قائدهم وبطريقة استفزازية أخبرهم بأن أمامهم خيارين: إما مغادرة المعتصم أو التدخل ضدهم بالقوة. فما كان من أحد المعتصمين إلا أن صدح «عاش الملك»، لكن المسؤول الأمني أجابه بأنها جملة قديمة. وفور ذلك أعطى الأمر لقوات الأمن بالتدخل ضد المعتصمين، الذين لم يتركوا لهم حتى فرصة التداول أو مغادرة المعتصم، وبدأ التدخل بالنساء اللائي كن يتقدمن المعتصم. إذ لم تفرق القوات بين المسنات وغيرهن. كما طالت الاعتداءات نساء كن داخل بيوتهن فدخلت عليهن قوات الأمن إلى البيوت واستعملت ضدهن القنابل المسيلة للدموع، دون أن يعرفن لماذا كل تلك القوة في مواجهة عشرات من النساء والشيوخ والشباب العزل، الذين حاولوا الدفاع عن آبائهم وأمهاتهم الذين تعرضوا للاعتداء. حصار وجوع وعطش عنف التدخل الأمني وعدم تفريقه بين النساء والشيوخ واستعمال القنابل المسيلة للدموع دفع الشباب إلى الفرار مرعوبين إلى الجبال المجاورة، التي حاصرتها قوات الأمن، مهددة الشباب باغتصاب النساء اللائي بقين وحيدات داخل البيوت. ظلت قوات الأمن تحاصر الجبال لمدة ثلاثة أيام، مما اضطر المعتصمين إلى تناول الدوم والحشائش وشرب المياه الملوثة من أجل البقاء على قيد الحياة، فيما ظلت قوات الأمن تمارس ضغوطا كبيرة عليهم عبر تهديدها بالهجوم عليهم بين الفينة والأخرى. واضطر الشباب الذين لجؤوا إلى الجبال إلى المبيت في العراء بالجبل لمدة ثلاث ليال. كما منعت القوات التي كانت تحاصر الجبال وصول الطعام إليهم إلى أن قرر باقي أبناء القبيلة، الذين يقطنون بمدينة مريرت، كسر الحصار المفروض عليهم، لكن قوات الأمن رفضت السماح لهم بالوصول إلى الدوار في بداية الأمر، غير أنها تراجعت فيما بعد وسمحت لهم بذلك أمام توتر الأجواء، مشترطة عليهم الالتزام بعدم قيام الشباب بأعمال انتقامية ضد منشآت المنجم، التي يؤكد الشباب أنها كانت أمامهم طيلة أيام الاعتصام ولم يتعرضوا لها، موضحين أن هدفهم من الاعتصام كان المطالبة بحقوقهم وليس التخريب، بل حتى تلك المواجهة البسيطة التي حدثت بينهم وبين قوات الأمن بعد اعتداء أفرادها على شيوخ ونساء القبيلة فرضت عليهم ولم يكن أمامهم أي خيار سواها، حسب شهادات المعتصمين. منع سيارات الإسعاف يحكي سكان القبيلة بألم بالغ منع قوات الأمن لسيارات الإسعاف من الوصول إلى القرية من أجل نقل النساء والمسنين الذين أصيبوا خلال التدخل الأمني واقتصار سيارات الإسعاف التي حلت بالمكان على نقل رجال الأمن فقط، دون أن يسمح للمصابين من سكان القبيلة بالانتقال إلى المستشفى إلا يومين بعد ذلك على متن سيارة إسعاف خاصة استأجرها أحد أبناء المنطقة المقيمين بإسبانيا. وخلال انتقالهم إلى مستشفى مريرت فحصهم الطبيب ورفض إعطاءهم أي شهادة طبية تثبت مدة العجز التي نجمت عن إصابتهم أثناء التدخل الأمني، واكتفى بوصف دواء مضاد للحمى لهم قبل مطالبتهم بمغادرة المستشفى، وهو ما اعتبره المصابون أمرا غير مقبول وهضما لحقوقهم القانونية في الحصول على شهادة طبية عن حالتهم الصحية. بيئة مدمرة يحكي حمو غزل, من أبناء قبيلة آيت سيدي أحمد أوحمد الذين هاجروا إلى إسبانيا, أنه عاد إلى القبيلة بداية شهر رمضان الماضي من أجل الاستقرار بها واستثمار الأموال التي جمعها بالديار الإسبانية في مشاريع فلاحية بأرضه الواقعة بمنطقة جبل عوام، غير أنه أصيب بخيبة أمل بعد أن جاء بأحد التقنيين لدراسة التربة وإعطائه التقنيات الفلاحية الملائمة، فأخبره الخبير إثر معاينته الأرض المذكورة بأنها أصبحت غير قابلة للزراعة وأن أي مبالغ مالية سينفقها في استصلاح تلك الأراضي سيكون مآلها التبخر في الهواء. يقول حمو إن أرضه والأراضي المجاورة أصبحت ملوثة بالمعادن نتيجة استعمال الشركة المستغلة للمناجم مجموعة من المواد الكيميائية من أجل فرز المعادن بعضها عن البعض، مضيفا أن الكميات الكبيرة من المواد الكيميائية، التي يتم استعمالها في عمليات فرز المعادن وتهيئتها للحصول على مواد خام قابلة للتسويق في السوق العالمية، تتخلص الشركة منها دون تصفية في واد تيغزى الذي يعتبر المورد المائي الوحيد لسكان المنطقة. ويؤكد المصدر ذاته أنه رغم احتجاجات سكان قبائل المنطقة وتحذيراتهم المتكررة للقائمين على الشركة وكذلك للسلطات المحلية من الأخطار والأضرار البيئية وتأثيرها على الإنسان فإن السلطات لم تتدخل لوقف مسلسل التدهور الذي تعرفه البيئة المحيطة بالمناجم، والذي امتد إلى المياه الجوفية التي أصبح على السكان الحفر لمسافة تمتد إلى أكثر من 1500 متر من أجل الوصول إلى المياه. واعتبر المصدر ذاته أن هذا الوضع البيئي المتدهور أدى إلى ظهور مجموعة من الأمراض بين السكان، الذين أصيب العديد منهم بالحساسية ومرض الكلى وظهور طبقات سوداء على وجوههم، مضيفا أن نسبة مهمة من سكان المنطقة زاروا المستشفيات الإقليمية والجهوية بسبب معاناتهم من أمراض يسببها تلوث المياه بالرصاص. وأكد المصدر نفسه على أن التدهور البيئي انتقل إلى الغطاء النباتي، الذي تراجعت كثافته بشكل ملحوظ، بعد تسجيل اندثار أكثر من 7000 شجرة على طول واد تيغزى حتى حدود قبيلة آيت بومزوغ. كما أضر بجانب كبير من الفلاحة المعيشية التي كان يعتمد عليها سكان المنطقة من أجل تأمين حاجياتهم الغذائية الأساسية.
تاريخ استغلال مناجم جبل عوام
توجد مناجم جبل عوام بالجماعة القروية للحمام التي تبعد عن مدينة مريرت التابعة لإقليم خنيفرة بحوالي سبعة كيلومترات، ويتم بها استخراج معادن الرصاص والزنك والفضة. وتستغلها حاليا شركة «تويسيت»، التي جاءت بعد إفلاس «الشركة المنجمية لجبل عوام»، التي تأسست في ماي 1955، لكن مع بداية 1959 حصلت الدولة المغربية على نسبة 24 في المائة من رأسمال الشركة وبقيت الأغلبية بلجيكية، ورفع مكتب الأبحاث والمساهمات المعدنية التابع للدولة المغربية حصته في الرأسمال إلى نسبة 33.33 في المائة والباقي في ملك مجموعة الاتحاد المنجمي البلجيكي . وكانت الشركة المنجمية لجبل عوام، حسب مصادر نقابية، تشغل أكثر من 700 عامل مرسم ومثله من المؤقتين. لكن بداية من سنة 1996 تم تفويت المناجم للشركة المنجمية «تويسيت»، التي قلصت عدد العمال المرسمين من 700عامل إلى حوالي 350 عاملا واستعانت بمثلهم من العمال المؤقتين. وتتم عملية استخراج المعادن، حسب المصادر ذاتها، انطلاقا من ثلاثة مناجم أساسية، هي منجم جبل عوام، ومنجم اغرم أوسار، ومنجم سيدي أحمد.
شهادات :
فاطمة (48 سنة ) تتحدث فاضمة العربية بصعوبة. رغم ذلك أكدت أنها تعرضت لكسر في إحدى أسنانها إثر التدخل الأمني. وتضيف أن أحد المعتصمين استنجد بها من شدة الألم الذي كان يعانيه بسبب الضربات التي تلقاها، غير أن أحد رجال الأمن دفعها بقوة حتى ارتطم وجهها بالأرض وانكسرت سنها، موضحة أنها تعاني آلاما حادة في وجهها ومختلف أنحاء جسدها بفعل الضربات القوية التي تلقتها. وتؤكد فاضمة أن الدواء, الذي وصفه لها الطبيب بعد أن اطلع على حالتها الصحية, لم يستطع أن يهدئ الألم الذي تحسه في مختلف أطرافها بعدما يقارب أسبوعا على التدخل الأمني الذي كانت ضحية له.
حمادي الزاهي (80 سنة ) يحكي هذا الشيخ الثمانيني أن المشكل انطلق حينما قرر الشباب الوقوف بطريقة سلمية للمطالبة بحقوقهم، مضيفا أن النساء كن يتقدمن الاعتصام بالطريق التي تمر من أمام بيوتهم إلى مقر منجم جبل عوام. ويعتبر أن المعتصمين كانوا يريدون أن يحتجوا على الشركة وليس على الحكومة، فجاء رجال أمن وطلبوا منهم مغادرة مكان الاعتصام، لكنهم لم يتركوا لهم أي فرصة للمغادرة، واعتدوا على النساء والشباب والشيوخ بالضرب في مختلف أطراف جسدهم. وأكد الزاهي أن رجال الأمن استعملوا ضدهم الغازات المسيلة للدموع وكأنهم يشكلون خطرا على الأمن، مضيفا أن هذا الوضع ظل مستمرا، مما اضطر الشباب إلى الهرب، وظل رجال الأمن يضربون النساء والشيوخ واقتحموا المنازل وقاموا بإخراج من كان فيها واعتدوا عليهم بالضرب وإن لم يكن من المعتصمين. ويقول الزاهي إنه تلقى ضربات في مختلف أنحاء جسده وأصبح يجد صعوبة كبيرة في التنقل بسبب هذا الاعتداء وأنه لم يتمكن من الحصول على شهادة طبية حول حالته الصحية بسبب رفض الطبيب الذي عاين حالته بمستشفى مريرت منحه إياها بدعوى وجود تعليمات لديه بعدم منح المعتصمين أي شهادة طبية تثبت وضعهم الصحي. يطو بنت التهامي لعل يطو كانت أكثر نساء القبيلة تضررا من التدخل الأمني، وهو ما لم تجد له تفسيرا بعد مرور حوالي أسبوع. إذ ما زالت تستعيد شريط ذكريات الاعتداء عليها رفقة نساء القرية من طرف قوات الأمن وتحس بألم يعتصر دواخلها وهي تتفحص مختلف مناطق جسدها التي لم تسلم من هراوات رجال الأمن الغاضبين، الذين لم يراعوا حرمة النساء أو ضعف الشيوخ الذين تجاوزت أعمار كثير منهم الثمانين سنة. وشبهت يطو ما حصل لأبناء قبيلتها على أيدي قوات الأمن بالطوفان. لا تزال يطو لم تصدق إلى حد الآن ما حدث لها في ذلك اليوم، وظلت تكشف عن مناطق من جسدها التي تحول لونها إلى أزرق داكن بفعل الضربات التي انهالت عليها، وتعتبر أن ما حدث لها ولنساء قريتها ليس أمرا عادلا لأن كل ما قمن به هو المطالبة بماء نظيف يشربنه وعمل قار لأبنائهن يقيهم العوز بعد أن تسبب التلوث الناتج عن المنجم في توقف جل الأنشطة الفلاحية التي كان يعتمد عليها سكان القبيلة في تأمين معيشتهم.
إضاءة : حاولت «المساء» بوسائل متعددة الاتصال بإدارة شركة «تويسيت»، التي تستغل مناجم جبل عوام، إلا أن مسؤولي الشركة رفضوا التعليق. وانتقلت «المساء» يوم الجمعة الماضي إلى إدارة الشركة الكائنة بجبل عوام وحاولت الحديث إلى المسؤولين بها لمعرفة وجهة نظرها حول الاتهامات الموجهة إليها من طرف سكان قبيلة آيت سيدي أحمد أوحمد، غير أن المسؤول عن أمن الشركة أكد لنا أن المدير في اجتماع مع مسؤولي الشركة، وطلب منا ترك رقم الهاتف ليتصل بنا حينما ينهي الاجتماع، غير أن هذا الأمر لم يتم إلى حدود أمس الاثنين.