تجمع هذه الشخصيات أشياء كثيرة أهمها أنها شخصيات من صنع الخيال الأدبي، وهي أيضا شخصيات تحظى بحمولات رمزية قوية في الثقافة الإنسانية عامة، منها شخصيات كثيرة فاقت شهرتها شهرة كتابها الذين أبدعوا ملامحها، فكثيرون يعرفون تفاصيل عن شخصية المحقق شارلوك هولمز والمحارب دون كيشوت والعراب كورليوني وعاشق الغابة طارزان والباحث عن الحقيقة حي بن يقظان والشرير فاوست... وغيرها من الشخصيات، لكن قليلون جدا يعرفون مبدعيها على التوالي: آرثر كونان دويل، سيرفانتس، ماريو بوزو، إدغار رايس بوروس، ابن طفيل وغوته.. روبنسون كروزو هو الشخصية الرئيسية في قصة كتبها دانيال ديفو، نشرت للمرة الأولى سنة 1719. تعتبر أحيانا الرواية الأولى في الإنكليزية. هذه الرواية هي سيرة ذاتية تخيلية، وهي تحكي عن شاب انعزل في جزيرة ما وحيدا لمدة طويلة، دون أن يقابل أحدا من البشر، ثم بعد عدة سنوات يقابل أحد المتوحشين، ويعلمه بعض ما وصل إليه الإنسان المتحضر من تقدم فكري وجعله خادمه. وفى نهاية القصة، عاد روبنسون كروزو ومعه خادمه إلى أوربا، حيث العالم المتحضر. هذه القصة تعني للكثيرين حلم الانعزال عن هذا العالم الظالم والحياة في ظل الطبيعة الرحيمة بالنسبة إلى هذا العالم، كما تظهر مدى التحضر الذي وصلت له الأمم الأوربية. هذه التقنية تعرف باسم الوثيقة الخاطئة، وهي تعطي شكلاً واقعياً للقصة. يغادر كروزو إنكلترا في رحلة بحرية في شتنبر عام 1651 مخالفاً رغبات والديه، يسطو القراصنة على السفينة ويصبح كروزو عبداً لأحد المغاربة. يتمكن من الهرب في زورق ويصادف قائد سفينة برتغالية من الساحلِ الغربيِ لأفريقيا. كان طريق السفينة إلى البرازيل، حيث هناك يصبح كروزو، وبمساعدة من الكابتن، مالكا لمزرعة. ينضم كروزو إلى بعثة لجلب العبيد من أفريقيا، لكنة غرق في عاصفة تبعد أربعين ميلاً في البحر على مدخل نهر «أورانوكو» في 30 شتنبر من عام 1659. يموت جميع رفاق كروزو ويتمكن هو من جلب الأسلحة والأدوات والتجهيزات الأخرى من السفينة، قبل أن تتحطم وتغرق. يقوم ببناء سور في مسكن وكهف، يصنع رزنامة بواسطة صنع علامات باستعمال قطعة خشب. يقوم بالصيد ويزرع الذرة ويتعلم صناعة الفخار ويربي الماعز.. يقرأ الإنجيل ويصبح متديناً فجأة ويشكر الله على مصيره، فلا شيء قد فقد منه إلا المجتمع. يستفتح دانييل ديفو روايته بوصف البيئة التي نشأ فيها بطل الرواية، فيخبرنا على لسان روبنسون كروزو أنه نشأ في عائلة تنتمي للطبقة الوسطى وأنه كان الابن المتبقي لدى والديه بعد أن فقدا أخويه في الحروب والأسفار، لذلك فقد كان والده يحاول إقناعه بشتى الوسائل ألا يسلك الطريق التي سلكها أخواه، حتى لا يلاقي المصير ذاته، خصوصاً أنه لا يوجد أي داع لكي يقدم على أمر كهذا، إذ إنه لا يقدم على المغامرة إلا صنفان من الرجال، الأول هو الإنسان الذي لم يجد له مكاناً في المجتمع الذي ولد فيه، أما الثاني فهو الإنسان الذي يشعر بأنه قد خلق لتحقيق غايات عظيمة. ركب كروزو ظهر سفينة متوجهة إلى لندن، لكن البحر سرعان ما بدأ يهيج بشكل مرعب، مما حمله على الاعتقاد بأن ما حدث هو عقاب إلهي على عقوقه لوالديه، وبدأ يشعر بالندم وتوبيخ الضمير، لذلك فقد أقسم أغلظ الأيمان بأن الله لو أنجاه من هذه المحنة ولو وطأت قدماه اليابسة مجدداً، فإنه سيتوجه مباشرةً إلى منزل والديه ولن يطأ سفينةً أبداً ما دام حياً، لكنه سرعان ما تناسى الوعود التي قطعها والأيمان الغليظة التي أقسمها بمجرد أن هدأت العاصفة، وكأن شيئاً لم يكن، واستطاع خلال بضعة أيام أن يحقق انتصاراً كاملاً على ضميره بأفضل طريقة يستطيع من خلالها أي مذنب أن يسكت ضميره، مستعيناً بالخمر وصحبة السوء، لذلك فإن التحذير الثاني سرعان ما يصله على شكل عاصفة أشد قوةً من العاصفة الأولى، حيث أدت العاصفة في هذه المرة إلى دمار السفينة بشكل كامل، وأدت كذلك إلى عودة الأفكار التي كان يسعى جاهداً كي يتخلص منها، لكن ثمة قوة خفية كانت تدفعه نحو نهايته بعينين مفتوحتين وكان لا يقوى على مقاومتها. وعندما كانت الفرصة تسنح له للرجوع، كان الكبر يمنعه من العودة إلى جادة الصواب، وبعد سنوات طويلة من الأسفار في البحار، أتت ساعة ذلك الإنسان البائس في الأول من يونيو من العام 1659، وهو اليوم ذاته الذي هرب فيه من منزل والديه منذ ثمانية أعوام، ففي هذه الرحلة تتحقق نبؤة والده، حيث كان الناجي الوحيد من بين جميع ركاب السفينة، ليجد نفسه على ظهر جزيرة نائية وصامتة، ومنذ هذه اللحظة بدأ التحول الكبير في حياة هذا الإنسان. لقد حولت المحنة القاسية روبنسون كروزو من إنسان جاحد لا يعرف قيمة النعم الكثيرة التي منحها الله له، إلى إنسان يبحث عن دواعي الشكر الكامنة في أبسط الأمور ويرى العناية الإلهية تحيط به من كل جانب. فعندما يرى نبات الشعير ينبت على الجزيرة في مناخ غير مناسب لنمو الحبوب ودون أن يجد تفسيراً منطقياً للكيفية التي وصلت بها بذوره إلى الجزيرة، بدأ بالاعتقاد بأن هذا النبات قد نمى على الجزيرة دون بذور وبمعجزة خالصة من الله تعالى، حتى يجد ما يقتات به في هذا المكان الموحش، لذلك فقد بدأت عيناه تذرفان الدمع الغزير، وحتى بعد أن تذكر أنه قد سبق له أن نثر حبات الشعير في ذلك المكان عفو الخاطر، دون أن يخطر بباله أن يحاول زراعتها، فإن إيمانه بالعناية الإلهية لا يغادره، لأن بقاء تلك البذور سليمة بعد أن أتت الجرذان على مخزون الحبوب، ومن ثم قيامه برميها في ظل صخرة عالية، هو أمر معجز فعلاً، لأنه لو كان رماها في أي مكان آخر لتعرضت للجفاف والتلف، ولما أصبحت بعد أربعة أعوام من التكاثر مصدر الخبز الوحيد بالنسبة إليه. بعد كل ذلك، هاهو الآن يتذوق مرارة الندم، لأنه لم يقدر النعمة التي منحته إياها الأقدار عندما وضعته في موقع يتمناه أي إنسان، فهو لم يقتنع بنصائح والديه وهما اللذين رفعا مكانته في الحياة وجعلا كل شيء ميسراً له، وفي غمرة مشاعر الألم والندم تلك، يأخذ بالتساؤل عن ماهية ما جرى له، فإذا كان الله تعالى قد خلق كل الموجودات، فهذا يعني أنه يتحكم بها وبكل ما يتعلق بها، لأن من يستطيع أن يخلق كل تلك الموجودات، قادر بالتأكيد على أن يسيطر عليها بشكل مطلق وقادر على أن يخضعها، وإذا كان الأمر كذلك، فلا شيء يحدث في الكون دون علمه وبغير مشيئته، وبما أنه ما من شيء يحدث دون علمه، فهذا يعني أن الله تعالى يعلم أن روبنسون كروزو هو الآن على هذه الجزيرة، وبما أنه ما من شيء يجري بغير مشيئته، فهذا يعني أنه قد شاء له هذا الأمر، وهذه النتيجة التي توصل إليها، منحته الكثير من السكينة الداخلية. لكن ذلك لم يمنعه من الإلحاح في سؤال نفسه عما فعله حتى يستحق مثل هذا العقاب البالغ القسوة، وسرعان ما تأتيه الإجابة من أعماق نفسه «أيها البائس هل تسأل نفسك عما فعلت، انظر إلى حياتك الماضية التي أسأت تمضيتها، ثم اسأل نفسك عن الإثم الذي لم ترتكبه». وبمجرد أن تتحسن صحته، يتجه بطل الرواية مباشرةً لقراءة الكتاب المقدس، حيث تقع عيناه أول ما تقع على هذه العبارة «ادعني في اليوم العصيب وسوف أنجيك وعندئذ فإنك ستمجدني»، وكأن هذه العبارة كانت رسالة إلهية موجهة له هو بالذات، كي تضعه على بداية الطريق، لكنه عندما أمعن التفكير في هذه العبارة لاحقاً، انطلاقاً من تفكيره الدنيوي المحدود، رأى أن كلمة الخلاص لا معنى لها بالنسبة له، فهي شيء بعيد جداً، إن لم يكن مستحيل التحقق، خصوصاً أنه قد أمضى سنوات طويلة على هذه الجزيرة دون وجود أية بارقة أمل بالنجاة، فهي بعيدة عن خطوط الملاحة البحرية، كما أنها محاطة بتيارات مائية شديدة القوة، مما يجعل من مغادرتها على متن قارب صغير عمليةً شبه مستحيلة. وهنا يقارن بطل الرواية قناعته باستحالة النجاة مع تشكيك بني إسرائيل في مقدرة الله على أن ينزل لهم مائدةً في البرية، فيحدث نفسه قائلاً: «ألم أنجو بشكل عجائبي من المرض؟ ألم أنجو من وضع عصيب ومخيف؟ وما الذي استخلصته مما حدث لي؟ هل قمت بواجبي؟ لقد أنجاني الله، لكنني لم أمجده، أي أنني لم أكن شاكراً ولم أنظر إلى ما حدث لي على أنه نجاة، إذاً فكيف يمكنني أن أتوقع المزيد؟». فكروزو لم يكن يرى للخلاص سوى معنىً واحد، وهو الخلاص من الجزيرة التي كانت تمثل سجناً كبيراً بالنسبة إليه، أي أنه كان بدايةً ينظر إلى هذه الكلمة بمفهومها الدنيوي الضيق، أما الآن، فإنه ينظر للمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، أي الخلاص بمفهومه الديني، وهو الأمر الذي شكل تحولاً كبيراً في طريقة تفكيره، «الآن بدأت أفهم العبارة التي ذكرتها سابقاً بمعنىً مختلف لم أدركه من قبل أبداً، فلم تكن لدي فكرة عن النجاة إلا بمعنى النجاة من الأسر الذي كنت فيه، لكنني الآن تعلمت أن أفهم الكلمة بمعنىً مختلف، فأنا الآن أنظر إلى حياتي الماضية برعب، حيث أرى آثامي بشكل مخيف جداً، إلى درجة أن روحي لا تطلب من الله سوى الخلاص من وزر الذنب الذي يقض مضجعي، أما بالنسبة لحياة العزلة، فهي لم تعد تعني لي شيئاً». ولا يلبث روبنسون كروزو أن يجد أن ثمة داعيا جديدا من دواعي الشكر، ذلك أن العناية الإلهية قد أتت به إلى جزيرة آمنة وسط موقع جغرافي تستوطنه قبائل آكلي لحوم البشر، أي أن السفينة لو كانت قد تحطمت في أي موقع آخر، لما كان ينعم بالأمان الذي ينعم به الآن في هذه الجزيرة الخالية، حتى من الحيوانات المفترسة والسامة. وروبنسون كروزو الآن يقرأ الكتاب المقدس بشكل يومي ويجد العزاء والمواساة في كل كلمة يقرؤها، كما أنه يحاول أن يسقط كل ما يقرأه على واقعه الحالي، وكأن تلك الكلمات موجهة له شخصياً.