ينبش الإعلامي محمد بن ددوش في ذاكرته الإذاعية قبل 60 سنة، ويسجل في كتابه «رحلة حياتي مع الميكروفون» مجموعة من الذكريات والمشاهدات التي استخلصها من عمله في مجال الإعلام السمعي البصري، وهي ذكريات موزعة على عدد من الفصول تبدأ بأجواء عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى، وانطلاقة بناء الدولة المستقلة بعد التحرر من الاحتلال الفرنسي والإسباني، مبرزا موقع الإذاعة المغربية في خضم التيارات السياسية التي عرفتها الساحة المغربية في بداية عهد الاستقلال ومع توالي الحكومات الأولى وتعاقب المديرين الأوائل على المؤسسات الإعلامية. ويرصد الكتاب مكانة وعلاقة الملك الراحل الحسن الثاني بعالم الصحافة ومكانة الإذاعة والتلفزة في حياته، مع الانطباعات التي سجلها المؤلف خلال مواظبته على تغطية الأحداث الهامة التي عاشتها المملكة، وفي مقدمتها حدث المسيرة الخضراء وهيمنة الداخلية على الإذاعة والتلفزة، وضمن الكتاب وقائع تاريخية تنشر لأول مرة حول احتلال الإذاعة خلال محاولة الانقلاب التي كان قصر الصخيرات مسرحا لها في سنة 1971. بعد عام كامل على جولة العقيد القذافي في العواصم العربية، لاحظ الزعيم الليبي أن العلاقات العربية ما زالت تراوح مكانها، بل «إن بعضها لم يزد إلا تكهربا وتنافرا»، كما لاحظ ذلك بنفسه في رسالة بعث بها إلى رؤساء الدول العربية يدعوهم فيها بوجه خاص إلى إنشاء اتحاد بين الدول العربية. و لا يجب أن نغفل هنا أن فكرة الوحدة العربية ظلت طيلة عقود تسكن ضمير العقيد القذافي، لكن الوضع العربي ظل من جهته يعاكس هذه الآمال الوحدوية حتى آل به الأمر إلى أن يولي وجهته نحو إفريقيا عسى أن يتمكن من تحقيق الآمال الوحدوية، التي لم يتمكن من إنجازها مع إخوانه العرب، ولحد الآن لم يجد القذافي التربة الطيبة التي تثبت في أعماقها بذرة الوحدة لا العربية ولا الإفريقية. إذن، حاول الزعيم الليبي، مرة أخرى، تحريك همم القادة العرب وتذكيرهم بأهمية الاتحاد لمجابهة الأخطار التي تهدد الأمة العربية إذا ما استمرت في تشتتها وفرقتها. وكان الحسن الثاني من بين القادة العرب الذين تلقوا رسالة العقيد القذافي وقد حملها له مبعوث ليبي يوم 13 يوليوز 1984 وهو في مدينة الدارالبيضاء، التي احتضنت في تلك الأيام احتفالات عيد الشباب. لقد شرح العقيد في هذه الرسالة التي كانت مشابهة للرسائل الأخرى التي تلقاها ملوك ورؤساء وأمراء الدول العربية الهدف من زيارته للبلدان العربية قبل ذلك بسنة وكتب يقول: «كنت أرمي من وراء هذه الزيارات أن أشارك بقدرتي في تحسين الأوضاع العربية وتنقية الأجواء حتى لا يفوتنا الزمان وحتى لا نجد أنفسنا أمام إقبار المصير العربي». وقد أطلع الحسن الثاني الشعب المغربي على فحوى رسالة القذافي عندما تلاها بنفسه في خطابه عن طريق الإذاعة والتلفزة يوم 20 غشت 1984، يوم الاحتفال السنوي بذكرى ثورة الملك والشعب التي تخلد تاريخ نفي الملك المجاهد محمد الخامس وعائلته من المغرب وإبعاده من طرف الاستعمار الفرنسي إلى كورسيكا أولا ثم إلى جزيرة مدغشقر. في هذه الرسالة، يتحدث زعيم ثورة الفاتح بمرارة عن الوضع العربي: «أرى أن سنة مضت والأجواء العربية لم تزدد إلا تكهربا والعلاقات الثنائية بين بعض الدول العربية زادت تنافرا، وأمام هذه الحالة فأنا عندي أزمة ضمير ويجب على كل دولة عربية أن تتحمل مسؤولياتها أمام هذا الأمر الواقع». قرأ الملك الحسن الثاني الرسالة يوم توصل بها بمحضر المبعوث الليبي وبعض مساعديه، وبصورة مفاجئة يعلن لرسول العقيد القذافي، وهو لا يصدق ما يسمع، استجابته الفورية للنداء، بل ويقترح إبرام معاهدة اتحاد بين البلدين، وكان المغرب بذلك البلد العربي الوحيد الذي أعلن على لسان ملكه استجابته لنداء الوحدة كما صرح بذلك العاهل المغربي، وحتى العقيد القذافي، عندما أبلغه مبعوثه اقتراح الحسن الثاني، لم يصدق ما سمعت أذنه ولاحظ باستغراب أن ملكا هو أول من استجاب لندائه الوحدوي. كان خطاب 20 غشت 1984 متميزا بلهجة منشرحة للغاية، كان الملك يرتجل كما هي عادته في مثل هذه المناسبات، يشرح الظروف والمراحل التي قطعتها فكرة الاتحاد العربي الإفريقي والغاية من هذه التسمية، حيث يبقى الاتحاد مفتوحا في وجه الدول الإفريقية والعربية إذا رغبت في الانضمام إليه. وكانت معالم الارتياح والانشراح والحماس بادية على وجهه وفي لهجته، وكأنه يسعى إلى نقل تلك المشاعر إلى عموم المواطنين، الذين كانوا يستمعون إليه أو يشاهدونه عن طريق الإذاعة والتلفزة. كانت معاهدة الاتحاد العربي الإفريقي التي وقعها الحسن الثاني والعقيد معمر القذافي في مدينة وجدة على مقربة من الحدود المغربية الجزائرية يوم 13 غشت 1984، خيارا استراتيجيا مغربيا، في خضم المرحلة الحرجة التي عاشتها منطقة المغرب العربي في ظل قضية الصحراء المغربية، التي تحالفت ثلاثة أنظمة شقيقة وجارة (يا حسرتاه): الجزائر وليبيا وموريتانيا (في وقت معين بالنسبة لهذه الأخيرة) للتصدي لطموح الشعب المغربي المشروع في استكمال وحدته الترابية. كانت ثمانية أعوام قد مرت على نزاع الصحراء، وفي هذه الحالة يقول الحسن الثاني: «كان على الدولة أن تبحث عن الأوكسجين الذي ينفعها ولو على ثلاثة آلاف كيلومتر»، فكانت معاهدة الاتحاد مع ليبيا وقد جاءت في موعدها. كان العاهل المغربي أكثر طموحا عندما قال في كتاب «ذاكرة ملك»: «كان من واجباتي إسكات المدفعين اللذين كانا يقصفان أبنائي. كان أبنائي يتعرضون لقصف مدفعين أحدهما جزائري والثاني ليبي، وبتوقيع المعاهدة تمكنت من جعل القذافي محايدا، وحصلت على التزام منه بعدم الاستمرار في تقديم أدنى مساعدة لأعدائي وللبوليساريو» وأوضح الحسن الثاني لصحافي أمريكي سأله عما إذا كان قد وقع المعاهدة بهدف وضع حد لإمداد المتمردين بالأسلحة، قائلا: «نعم ! وكان (القذافي) قد كف عن تزويد أعدائنا بالأسلحة قبل سنة من توقيع المعاهدة». وعندما عبرت الولاياتالمتحدة عن استيائها لإقدام الحسن الثاني على الوحدة مع القذافي، لم يتردد الملك الراحل في أن يقول للأمريكيين «اسمعوا، إن الأطفال الذين يقتلون في بلادي ليسوا أبناء ولاية ويومينغ أو ولاية كونيكتوكت، إنهم مغاربة» وكان جورج بوش نائب الرئيس الأمريكي، إذ ذاك، قد صرح بأنه لم يفهم موقف الحسن الثاني وأنه يصعب عليه أن يرى إنسانا يحظى بثقافة عالية وواسعة ووفاء صادق يثق في رجل كالقذافي. لقد أتيحت عدة مناسبات للملك الحسن الثاني منذ التوقيع على معاهدة الاتحاد، للحديث عن العقيد معمر القذافي، سواء في خطبه المذاعة والمتلفزة أو في تصريحاته الصحافية. فقد كان يتحدث دائما عن «شقيقي الأخ معمر» ويقول عنه بأنه «لطيف المعاملة» وأنه «رجل لبق ومنتبه» و«رجل ذكي» وهناك خصلة اكتشفها الحسن الثاني في الزعيم الليبي وسماها بالخصلة الحميدة، وهي الوفاء بالوعد عندما يتعهد بشيء. فقد قال في حديث صحافي لمجلة: «نوفيل أوبسرفاتور» الفرنسية بتاريخ 28 مارس 1986: «كان القذافي وفيا بوعوده، إذ أنه منذ قيام الاتحاد قطع كل صلة بالبوليساريو». كان الحسن الثاني كثير التنويه بمعاهدة الاتحاد العربي الإفريقي، التي دخلت حيز التنفيذ في أول سبتمبر 1984، بعد مصادقة الشعب المغربي عليها يوم 31 غشت بواسطة الاستفتاء، وكان ينظر إليها كنموذج صالح للعالم الثالث «لأنها ليست اندماجا ولا انصهارا وليست فيدرالية ولا كونفدرالية، إنها توحد صفوف البلدين وتضمن التشاور بينهما في المشاكل العامة وذات الأهمية على الصعيد الدولي». وفي اليوم الذي دخلت المعاهدة حيز التنفيذ، بعث الحسن الثاني رسالة إلى العقيد الليبي ضمنها كل الآمال التي يعلقها عليها، قال فيها: «إن الأهداف النبيلة التي تتوخاها هذه المعاهدة، وكذا الأسباب العميقة التي أوحت بها لنا ستكون أحسن ضمان لحيويتها وفعاليتها ودوامها» وأضاف يقول: «والشعب المغربي والشعب الليبي يريان فيها الوسيلة والفرصة للأمة العربية لإحياء جميع القيم والمثل التي كانت قاعدة لحضارتنا وعظيم إشعاعها في العالم أجمع». ولابد هنا من إبراز إشارة عملية أرسلها الحسن الثاني لتأكيد إيمانه (بدوام المعاهدة)، التي ألح عليها في رسالته للقذافي، وهذه الإشارة هي اختيار الحسن الثاني لرئيس المجلس العلمي للرباط وسلا المرحوم الشيخ محمد المكي الناصري، ليكون عضوا في البعثة المغربية التي أوفدها إلى ليبيا لمرافقة الأمين العام للاتحاد المغربي الإفريقي، الأستاذ عبد الواحد الراضي، الذي سيستقر في ليبيا في المرحلة الأولى، على أساس تناوب البلدين على منصب الأمين العام واحتضان مقر الأمانة العامة. وفي هذا الصدد، أوضح العاهل المغربي أن وجود الشيخ الناصري في البعثة ليس كرئيس للمجلس العلمي كما قد يتبادر إلى الذهن وإنما بوصفه عضوا في مجلس الوصاية «إظهارا لعزيمة المغرب في أن يكون الاتحاد متسما بالاستمرارية، وأن الاتفاقية ليست معلقة بشخص الحسن الثاني، ولكنها مطبوعة بالاستمرارية التي يجب أن تطبع بها، لأن الناس تمر والمؤسسات والدول تبقى وتدوم». والجدير بالذكر بهذه المناسبة أنه سبق للشيخ محمد المكي الناصري أن كان سفيرا للمغرب في ليبيا في مطلع الستينات من القرن الماضي. ومع كل هذه الإرادات الحسنة والمجهود الفكري الذي أوجد معاهدة الاتحاد، فلن تمر سنتان كاملتان حتى كانت الآمال المعلقة عليها قد اضمحلت وغرقت سفينة الاتحاد في بحر التشنجات العربية المتلاطمة كما سيأتي الحديث عنها. لقد جاء الإعلان عن ميلاد الاتحاد العربي الإفريقي مفاجئا لعدد كبير من الدول وخاصة الدول الغربية، وعلى رأسها الولاياتالمتحدة التي كانت لها حسابات مع القذافي ونظامه، ومصدر المفاجأة والتعجب هو كيف أمكن للحسن الثاني أن يتفاهم مع العقيد الليبي، ولكل منهما نظرة خاصة لشؤون المنطقة العربية متباينة وأحيانا متعارضة، بالإضافة إلى أن الغرب عموما كان يكيل للقذافي التهمة تلو الأخرى بارتباطه بالإرهاب ويسعى إلى عزله على الساحة الدولية. وإذا كان القذافي صاحب (الخصلة الحميدة) وهي الوفاء بالعهد، فلم يكن الحسن الثاني أقل وفاء منه، حيث انبرى يدافع عنه ويسعى إلى تبرئته من تهمة الارتباط بالإرهاب. وفي هذا الصدد، هناك تصريح لملك المغرب الراحل ضمن حديث صحافي أدلى به للمجلة الفرنسية الشهرية «مجلة العالم» يوم 8 أبريل 1986 جاء فيه: «ليس هناك ما يثبت حتى الآن أن ليبيا والعقيد القذافي يقفان وراء الإرهاب الدولي كما تتهمه بعض الدول، خاصة الولاياتالمتحدة» وزاد الحسن الثاني يقول: «فلو كان القذافي إرهابيا، لكنت أول من يدينه، وبما أنه ليس إرهابيا، فلا أرى داعيا لأن أكون أول من يقف ضده. وكتب صحافي أمريكي في جريدة «نيويورك تايمز»: «ترى أمريكا أن الاتحاد مع ليبيا جاء ليعزز جانب العقيد القذافي، في وقت كان في موقف صعب على الصعيد السياسي»، واعترف الحسن الثاني أن معاهدة الاتحاد العربي الإفريقي أثارت له متاعب مع الولاياتالمتحدة ومع عدد من الدول الأخرى التي فوجئت بالمعاهدة. والجدير بالذكر أن الرئيس الأمريكي كان، إذ ذاك، هو رونالد ريغان. ومع ذلك، لم يتردد الحسن الثاني في التأكيد عدة مرات على حريته في اتخاذ القرارات والمواقف التي تمليها عليه المصلحة العليا للبلاد. وقد قالها صراحة لمبعوث صحيفة «نيويورك تايمز يوم 24 سبتمبر 1984: «وقعت هذه المعاهدة لأنني حر في ذلك» وكررها من جديد في ندوة صحافية بتاريخ 29 فبراير 1985 بصيغة أخرى: «المغرب بلد مستقل وذو سيادة ومن حقه أن يتحد مع من يشاء» وقال مرة أخرى: «قبل أن أكون صديقا للولايات المتحدة، فأنا أولا ملك المغرب، ومصالح بلادي فوق كل اعتبار» وفي آخر المطاف لم يكن لهذا الحدث أي تأثير سلبي على العلاقات المغربية الأمريكية. وبما أن كل شيء متحرك في السياسة، فبعد أقل من عقدين من الزمن، ستتبدل الأحوال وتنفرج الأزمة بين ليبيا والولاياتالمتحدة والدول الغربية بصفة عامة، ويستقبل القذافي في العواصم الأوروبية، وتستقبل طرابلس بدورها كثيرا من قادة أوروبا وأمريكا وتستأنف العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية، ولكن بعد أن دفعت ليبيا ثمنا باهظا ماليا في قضية لوكيربي، وبعد أن تخلصت من صناعتها النووية وأرسلتها على متن بواخر محملة إلى عدوها القديم. مهما كانت ردود الفعل التي أحدثتها معاهدة الاتحاد العربي الإفريقي قوية ومتعددة لدى الدول الغربية، فإنها لم تبلغ درجة الغلو وتجاوز الحدود التي لقيها اجتماع الملك الحسن الثاني برئيس الحكومة الإسرائيلية شيمون بريز من لدن أطراف عربية ومن ضمنها العقيد القذافي، حليف الحسن الثاني في معاهدة الاتحاد، وهو الموقف الذي أجهض الوحدة ووضع حدا لبداية الحلم الوحدوي العربي. كان لقاء الحسن الثاني بشيمون بريز يوم 20 يوليوز 1986 في مدينة إيفران (منطقة الأطلس المتوسط)، أي المدينة نفسها التي أقام بها الحسن الثاني قبل ذلك بأربع سنوات احتفالا شعبيا كبيرا لقادة الدول العربية المشاركين في القمة العربية (الثانية عشرة) الشطر الثاني بفاس.