ما عجبت لشيء في حياتي عجبي لهذه الفتاة الإيرانية التي تعلمت منها درسا لن أنساه طوال حياتي. هي آمنة، طالبة جامعية، تبهر بجمالها الساحر الذي تتربع على عرشه عينان واسعتان، تشعان صفاء وبراءة، وابتسامة عذبة تكشف عن أسنان كاللؤلؤ المرصوص، أحبها كثيرون.. لكن مجيد، زميلها، كان حبه لها مختلفا.. حب قوي وأعمى وأحمق وجارف، فتقدم لطلب يدها، لكنها رفضت، فتحول حينها إلى وحش كاسر ومجرم مرعب وأحمق متهور، فاستحال الحب إلى كراهية والعاطفة الجياشة إلى انتقام. وعمد إلى ماء النار فأفرغه على البريئة الغافلة.. أحرق وجهها وأعمى عينيها وتركها في ظلمة أبدية، تنتقل داخل إيران وخارجها من مستشفى إلى آخر ومن جراح إلى من هو أمهر منه.. والنتيجة، بعد سبع سنوات، وجه مشوه يشبه وجوه بعض أبطال أفلام الرعب، وبصر لا يمكن استرجاعه إلا بزرع عينين.. الأمر الذي ما زال متعذرا طبيا. مجيد في السجن، ينتظر الحكم عليه. وفي بلد تطبق فيه شريعة العين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن، تقرر أن تفقأ عيناه بصب نفس الماء الحارق، الذي استعمله ضد آمنة، عليهما. ذاك الصباح، كانت الحركة غير عادية في المركب الجراحي، حيث حضر المجرم والصحافة والطاقم الطبي وممثل القضاء. وآمنة شاهدة، أي حاضرة فقط، فهي لا تشاهد شيئا بل تكتفي بالسمع. أما مجيد فكان يلتفت حوله مرعوبا يلقي نظرة الوداع على الألوان الزاهية والأشكال المختلفة.. نظرة التشييع الأخيرة لعالم مضيء ليغوص بعد لحظات في السواد الدائم. كان الكل بلباس الجراحة الأخضر ينتظر أن ينفذ الحكم.. وتنطق آمنة في الثواني الأخيرة: «لقد عفوت عنه!»، يعاود المدعي العام سؤالها فتؤكد قولها: «نعم، لقد عفوت عنه».. يهوي مجيد جاثيا على ركبتيه أمامها وهو يبكي بلا انقطاع كطفل وديع.. كنت أنظر إلى هذه اللقطة المؤثرة وأنا أقاوم البكاء! ما أجمل العفو.. وما أعظم الإنسان حين يعفو عند المقدرة.. ما أسمى العفو حين يأتي نجدة مشرقة لمذنب معترف.. يقول لها مجيد: «سامحيني.. أنا أحبك.. وسأبقى أحبك» وكيف لا؟ كيف لا تحب من قابل إساءتك بواسع عفوه؟ من هنا يبدأ الحب الحقيقي.. ما كان قبل ذلك لم يكن حبا قط، ذاك عشق طائش وإعجاب عابر تحول في لحظة إلى انتقام أسود بئيس.. موقف آمنة جدير بأن يعلم أناسا كثيرين معاني عديدة وإضاءات مشرقة لنور اسم الله - العَفُوّ. ولكن المرء قد يحرم المعرفة والحكمة عندما يكون عقله مغلقا صعيدا زلقا أو يكون العلم غائرا فلا يستطيع له طلبا. والعلم أحيانا لا يأتي إلا كومضة خاطفة مثل البرق، ينجلي بها الكون كله فتتم رؤية الأشياء على حقيقتها ويلوح جوهرها وتنكشف أسرارها. ومضات كهاته تأتي مرات قليلة في العمر كليلة القدر، فهي خير من قراءة ألف كتاب ونص. إن الارتقاء إلى قمة العفو مطلب إنساني عال، يحتاج إلى جهد نفسي طويل وعميق، ولن نجد زمانا لذلك أفضل من العشر الأواخر من رمضان، حيث يتحرى الناس ليلة القدر ويسعدون بطلب العفو، فقد جاء في حديث لعائشة رضي الله عنها حين سألت الرسول الكريم عما تقوله إن وافقت ليلة القدر، فقال لها: «قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني». قد يستصغر بعضهم هذا الدعاء ويجده غير كاف لليلة عظيمة كهاته لأنه لم يتذوق حلاوة اسمه «العَفُوّ».. ولكن تذكر، في لحظة صفاء وشفافية، يوم يقف العباد أمام ربهم خاشعين معترفين بذنوبهم، حيث لا صديق ولا حميم.. ينتظرون نزول الحكم العدل والقلوب بلغت الحناجر، والأجساد تسيل عرقا من الخوف، والأبصار تكاد تزيغ، ثم يتجلى الله على عباده باسمه العفو.. فيعفو ويغفر ويصفح.. هل هناك سعادة ونعيم أكبر من هذا؟! ما أعظم العفو وما أجمل العافين عن الناس والله يحب المحسنين، وما أسعدك أيها العافي القادر على ذلك.. عندما تطلق سراح سجين مظلوم ليعود إلى أسرته في العيد السعيد وإلى قرائه ومحبيه.. «وليعفوا وليصفحوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم.. والله غفور رحيم».