بعد وفاة الملك الراحل الحسن الثاني، تردد اليوسفي في مصارحة الملك الجديد بحقيقة حاجة البلاد واستقرارها إلى «عقد اجتماعي جديد»، يقطع مع فترة الحكم السلطوي التي دامت 38 سنة، ويعيد تقسيم كعكة السلطة على مقتضى مشروع للانتقال الديمقراطي هادئ وسلس لكنه ناجع وفعال. تردد اليوسفي، حسب بعض المقربين منه، كان مبعثه شيئين. أولا، كان شيخ الاشتراكيين المغاربة، الذي عاش كل فصول الحرب المفتوحة مع القصر على مدار 50 سنة من الاستقلال، يتهيب من أن تلصق به تهمة السعي إلى استغلال موقعه في الوزارة الأولى لفرض توجهاته على الملك الجديد، ولهذا تريث وبدأ يمشي على البيض وهو يدير شؤون الوزارة على عهد الملك الجديد. أما المبعث الثاني لتردد اليوسفي في مصارحة الملك بضرورة الإقدام على مشروع كبير للإصلاح السياسي، فكان رهان اليوسفي على تمديد ولايته في الحكومة لأربع سنوات أخرى بعد الانتخابات، وبذلك سيكون أمامه الوقت لكسب ثقة الملك التي ستكون هي مفتاح الإصلاحات القادمة. يحكي أحد الوزراء الذين عايشوا لحظات انتهاء ولاية اليوسفي وبداية ولاية جطو سنة 2002، أن الرجلين معا كانا جالسين في قاعة الانتظار بالقصر الملكي في مراكش، في انتظار استقبال الملك للحكومة لوداعها أولا، ولتعيين وزير أول جديد يكلف بتشكيل الحكومة. وبعد مدة قصيرة، نادى الحاجب الملكي على إدريس جطو أولا، وكان آنذاك وزيرا للداخلية، مما يعني أن هناك حدثا كبيرا يستدعي تجاوز البرتوكول الذي يقضي باستقبال الوزير الأول أولا... في تلك اللحظات، تغيرت ملامح اليوسفي، وفهم بخبرته أن جطو سيعين وزيرا أول.. وكذلك كان. خرج الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي غاضبا من القصر، وحاول دفع حزبه نحو مقاطعة المشاركة في حكومة لم تحترم المنهجية الديمقراطية، ولما عجز عن ذلك، استقال من الحزب ومن السياسة احتجاجا على القصر وعلى الحزب... ما لم يضرب اليوسفي حسابه أنه لم يكن وحده في الساحة، وأن هناك بقايا المخزن القديم وعناصر المخزن الجديد كانت تتحرك لملء الفراغ الذي تركه اليوسفي وملأه غيره بتصور تنفيذي عن الملكية، ومعزز بشعبية الملك وحب الناس له... بعد اليوسفي دخل مستقبل الحزب إلى المصير المجهول.. حزب شارك في حكومة التناوب من أجل تأمين انتقال العرش من الأب إلى ابنه، ثم لما حان زمن الانتقال الديمقراطي، وجد نفسه خارج الملعب المؤثر في القرار، يشارك مرتين في حكومتين باهتتين، الأولى قادها التكنوقراطي إدريس جطو، والثانية يقودها الاستقلالي عباس الفاسي، وهي حكومة أقلية يضمن عدم سقوطها في البرلمان فؤاد عالي الهمة وحزبه الأصالة والمعاصرة... أخطأ الحزب ثلاث مرات في ظرف عشر سنوات. أخطأ عندما لم يصارح اليوسفي الملك الجديد بضرورة تجديد التعاقد، وأخطأ اليازغي، ومعه المكتب السياسي، عندما قبلوا مشاركة الحزب في حكومتين «بدون خارطة طريق للإصلاحات الديمقراطية». لكن كيف وصل الحزب إلى ارتكاب كل هذه الأخطاء دون قدرة على المراجعة ولا على النقد الذاتي؟ وكيف انفصل الحزب عن قاعدته وعن مشروعه؟ الجواب في الحلقة المقبلة...